كان الأمر أشبه بمسلسل درامي رمضاني مثير، من بطولة كل نجوم الشباك الحاليين، تكلف الكثير من الأموال لإنتاجه على أحسن ما يكون، لكن مخرج العمل أخطأ وقام بوضع مشهد النهاية على تترات البداية، فأصاب العمل في مقتل، وأفقد الجماهير الشغف ناحيته، فعزف المشاهدون عن رؤيته، لأنهم علموا النهاية منذ لحظة البداية. كذلك كان حال "مسلسل" دوري السوبر الأوروبي.
في ليلة الأحد الكروي الدامي، وقت الإعلان عن تكوين "دوري السوبر" وتشكيل مجلس إدارته، وقف العالم على أطراف أصابعه انتظاراً لقرارات مرتقبة من مجموعة الـ12، لكن بعد ذلك بقليل توقع أغلب المتابعين للمشهد الكروي أن الأمر لن يتم بتلك السلاسة، ولن يكتمل، وأن مشهد النهاية له يوشك أن يُكتب قبل توزيع الأدوار، وحتى قبل أن نسمع كلمة (أكشن) من مخرج العمل.
"كلاكيت أول مرة".. المشهد الأول
ظاهرياً بدا الأمر كما لو كان ملاك ورؤساء الأندية المؤسِّسة لدوري السوبر الأوروبي يسعون جاهدين لإنشاء بطولة قوية وتنافسية، تجلب الكثير من الأموال والأرباح لتعويض خسائر الأندية الناجمة عن أزمة كوفيد 19، التي أضرّت بكرة القدم، لكن الواقع يقول إن هؤلاء هم من أثقلوا كاهل تلك الأندية بديون كبيرة، نتيجة سياسات إدارية "غبية" وتعاقدات ضخمة فاشلة، فكان الحل الوحيد حين وقعت الأزمة هو البحث عن مصادر تمويل وتسديد لتلك الديون المتراكمة، حتى ولو كان هذا على حساب القطاع الأكبر من الأندية والجماهير.
الأزمة تتلخص في أشخاص أضروا بكرة القدم وسمعتها، وبدلاً من تحمّل نتائج ما اقترفته أيديهم باتوا يبحثون عن منفذ لهروبهم من المسؤولية، حتى لو كان ذلك المنفذ يمر على أشلاء الآخرين.
ألكسندر شيفرين في ظهوره الأول.. المشهد الثاني
منذ انتخاب ذلك الرجل القادم من سلوفينيا رئيساً للاتحاد الأوروبي لكرة القدم لم يتردد اسمه كثيراً في وسائل الإعلام، ولم نقرأ له "تصريحات نارية"، حتى كدنا نشك أن الرجل غير موجود، أو موجود لكنه يكره وظيفته، لكن مع بداية الأزمة ظهر مدافعاً عن حقوق من انتخبوه وفوضوه. فهاجم منذ اللحظة الأولى كلاً من "إد وودوارد" و"أندريه أنييلي" ووصفهم بالكاذبين والثعابين. في ذلك اليوم شعر جميع أعضاء "اليويفا" أنهم بحاجة أن يكونوا فعلاً متحدين أكثر من أي وقت مضى، وقاموا بالتصويت بالإجماع على مشروع تعديل دوري أبطال أوروبا، وكأنهم كانوا يسددون ضربة سريعة رداً على قنبلة عصبة الأندية.
لم يمهل شيفرين الأندية المتآمرة كثيراً، وأدخل لحلبة الصراع العنصر الأهم في اللعبة، وهم اللاعبون، فجأة أصبح ميسي ورونالدو وصلاح وهاري كاين وراشفورد ولوكاكو وغيرهم معرضين للغياب عن بطولات منتخباتهم والمشاركة في كأس العالم والبطولات القارية الهامة، كانت ضربة موجهة ومستقيمة ورائعة أصابت قلب الهدف، وزادت أطراف الصراع. تخيل نفسك لاعب كرة قدم مصنفاً، تنتظر كأس العالم بفارغ الصبر، وتحلم بتحقيقه مع منتخب بلادك، لتصبح بين عشية وضحاها محروماً من المشاركة فيه بسبب قرار لناديك.
هنا بدأت تظهر ملامح الانتصار، خصوصاً بعدما تداول الجميع تذمر اللاعبين من القرارات، ورفضهم لها، لتصبح النتيجة تقدم شيفرين ورفاقه بهدف في بداية هذه المباراة القصيرة.
عودة التنين المجنح فلورنتينو بيريز.. المشهد الثالث
ليل خارجي، مع موسيقى مثيرة ترفع دقات قلبك وتجعلك تتابع المشهد عن كثب، وفي أول كادر في المشهد يظهر التنين المجنح فلورنتينو بيريز، ليتحدث بثقة عن دوري السوبر الأوروبي، ويشرح أسباب وجوده وتداعياته، وأن فريق العمل درس كافة الاحتمالات، وأنهم ماضون قدماً فيما بدأوه ولن يهتزوا بردود الأفعال. ولا مانع لدى الرجل من بعض الهجوم والسخرية من غاري نيفيل، محلل شبكة "سكاي سبورت"، وتذكيره بنتائجه السيئة حين قام بتدريب فالنسيا الإسباني بعد أن قام الأخير بشن هجوم ضارٍ على البطولة الجنين. مع بعض التهديد والوعيد لجماهير ريال مدريد ذاتها بصعوبة التعاقدات مع لاعبين آخرين، وحتى التجديد لقائد الفريق سيرجيو راموس، أو الحديث عن احتمالية بيع كريم بنزيما ذاته، في رسالة لأعضاء ناديه، مفادها إما الدعم المطلق للمشروع أو انتظروا تصفية الفريق ورحيل الباقي من نجومه.
كما لوح بيريز بالفساد في الاتحاد الأوروبي، حين تحدّث عن عدم معرفته لراتب رئيسه، مع مزيد من الوعود للاعبين الدوليين بعدم المساس بهم، ولا بمشاركاتهم مع منتخباتهم، وكأنه يتحدى الجميع. وعزف بيريز مقطوعة غير معتادة بالحديث عن برشلونة واصطفافهم معه، وعظمة جماهيره، وتأكده من رغبتهم في الانتقال لدوري السوبر، وأبدى موافقته في حال طلب لابورتا رئاسة الدوري بدلاً منه، مع مغازلة ميسي أكثر من مرة، كل تلك الكلمات كانت لتثبيت دعائم وأركان مشروعه، وطمأنة الجميع أنه يعمل لصالح الأندية كلها وليس ريال مدريد فقط.
بدا الأمر للبعض وكأن بيريز رد على شيفرين ووجه له ضربة مضادة، لكن واقع الأمر هو أن الرجل السبعيني خرج يهذي، مدافعاً عن مشروع غير مكتملة عناصره ولا شكله النهائي، ولا لجانه، ولم يرد على تساؤلات كثيرة عن احتمالية منع الحكومات الأوروبية إقامة المباريات على أراضيها، وموقف حكام البطولة والشكل التنظيمي لها، اختزلت بطولة دوري السوبر في 12 نادياً، يمثلون ثلاث دول في سبع مدن أوروبية فقط، بدون تقديم موافقات حكومية أو تنظيمية ولا قناة تلفزيونية تتبناه، ثم تخرج لتتحدث عنه بعشوائية، دون متحدث رسمي لبق ولا موقع إلكتروني تجد فيه كل ما تحتاجه من معلومات، ولا خطة عمل لليوم الثاني. كما أن بيريز كذب بقوله إن الدوري لم يقدم الدعوة لناديى باريس سان جيرمان وبايرن ميونيخ، ولكن الحقيقة أنه خاطبهم مباشرة، وكان يريد وجودهما منذ اللحظة الأولى للإعلان، ولكنهما كانا يملكان بعض التحفظ والرغبة في الحصول على وقت أطول للتفكير في أمر مصيري مثل هذا.
الكرة في ملعب السياسة
لم تنفصل السياسة عن كرة القدم في هذه الأزمة، رأينا إيمانويل ماكرون رئيس فرنسا يشكر الأندية الفرنسية على عدم مشاركتها في دوري السوبر، ورأينا رئيس وزراء إنجلترا بوريس جونسون يهدد الأندية بعدم فتح الملاعب لهم، وبعدم لعب مباريات البطولة على الأراضي الإنجليزية. ورغم كون بريطانيا صاحبة السبق في الخروج من الاتحاد الأوروبي، فإنها مازالت متمسكة بالتواجد في البطولات الكروية تحت علم الاتحاد، وهو ما قد يكون أمراً سياسياً بعيد المدى، يهدف لجعل بريطانيا موجودة في كافة التظاهرات الأوروبية، وحاضرة بقوتها الكروية الناعمة، تحسباً لأي تطورات مستقبلية، وفي الوقت نفسه حتى لا تفقد الدولة دوريها القوي المميز، ويقل اهتمام الجماهير به حول العالم لصالح دوري آخر يشارك فيه 14 نادياً غير إنجليزي.
العصا والجزرة.. المشهد الرابع
رغم أن الأمر ظهر وكأن الاتحاد الأوروبي يستخدم العصا ويرهب الأندية بالعقوبات التي تنتظرهم حال نفذوا ما أعلنوا عنه، لكنه في الخفاء كان يستخدم الجزرة لوقف ذلك المشروع حتى ولو كان الثمن هو ضخ المزيد من أموال الاتحاد للأندية الكبيرة. ساعد "اليويفا" على ذلك تصريح يورغن كلوب وغوارديولا بعدم رضاهما عن المشروع، بالإضافة لبيان لاعبي نادي ليفربول ورفضهم الكامل للأمر، مع تظاهرة جماهير تشيلسي، التي وإن كانت ليست بالأعداد الكبيرة، إلا أنها عجلت بخروج بيان اعتذار من نادي تشيلسي عن الاستمرار في المشروع. تزامن كل هذا مع اجتماع الأربعة عشر نادياً في الدوري الإنجليزي لمحاولة إبعاد المنشقين عن الاستمرار في الدوري، وإبعاد كل مديريهم عن لجان الدوري، لأنهم لم يعودوا واثقين من ولائهم للدوري الإنجليزي الممتاز.
يعلم الاتحاد الأوروبي أن الاثني عشر نادياً بالإضافة لباريس سان جيرمان وبايرن ميونيخ هم من يأتون بكل تلك الأموال، وأن المعلنين لا يدفعون الأموال لأبويل نيقوسيا أو شاختار دونيتسك، وأن تحديهم ومواصلة الضرب بالعصا قد يمنعهم من العودة، وبالتالي يتسبب هذا في خسائر مهولة للبطولة فنياً ومادياً، فكان الحل بالتلويح ببعض التعديل، ورفع النسبة المالية لبعض الأندية، بالإضافة لرفع سقف قوانين اللعب المالي النظيف، والتي من دون شك ستصب في خانة الأندية التي يملكها مليونيرات الخليج أو أباطرة المقاولات في أوروبا.
وضع الاتحاد الأوروبي الأندية في وجه البحر، ولكن من دون جنود فرعون في ظهرهم، بل فتح لهم ممراً آمناً للتراجع من دون توقيع عقوبات أو تهديد بها، فانفرط العقد، وتدلت حباته على الأرض، وانهالت الاعتذارات من الجميع، كما أعلن إد وودوارد استقالته في آخر العام من منصبه في مانشستر يونايتد.
في المؤتمر الصحفي الشهير لأليكسندر شيفرين بعد إعلان (استقلال الأندية) لم يهاجم سوى شخصين، واحد منهم بدافع الحب والصداقة وهو أندريه أنييلي، صديقه ووالد الفتاة التي طلب من شيفرين أن يكون أباً روحياً لها وقت تعميدها في الكنيسة، والآخر هو إد وودوارد نائب المدير التنفيذي لمانشستر يونايتد.. ولكن لماذا وودوارد وهو مجرد نائب مدير تنفيذي وليس مالك أو رئيس للنادي؟
وودوارد رغم عدم معرفته الكبيرة بكرة القدم ولا إدارتها، وما سبّبه ذلك من مشاكل فنية كبيرة في مانشستر يونايتد، سواء في اختيار اللاعبين أو المدربين، إلا أنه مصرفي كبير وخبير في الاستثمار والتسويق، ومازال محافظاً على وجود مانشستر ضمن أغنى أندية العالم، رغم عدم فوزه ببطولات كبيرة منذ فترة ليست بالقصيرة. كان يعمل وودوارد سابقاً في البنك الأمريكي چي بي مورغان، وهو البنك الممول الرئيسي لدوري السوبر الأوروبي، كما أنه كان حلقة الوصل بين الأندية المنشقة والبنك، وخاض سلسلة من المفاوضات السرية معهم حتى يحصل الجميع على مبلغ كبير مثل "400 مليون دولار"، كفيلة بحل أغلب المشاكل المالية للأندية. لذلك يرى الاتحاد الأوروبي أن وجوده حالياً يمثل خطراً وتهديداً كبيراً، لقربه من السوق الأمريكي، الذي إن قرر سحب البساط الكروي من الدوري الإنجليزي الممتاز وعمل بطولة موازية لها، أو لدوري الأبطال، فلن تستطيع أي جهة كانت أن تجاري الولايات المتحدة في الإنفاق المادي أو وفرة الملاعب وتقنيات النقل التلفزيوني. لذلك لا أستبعد أن يكون الاتحاد الأوروبي طلب خلف الغرف المغلقة من إدارة مانشستر يونايتد فرض الاستقالة على وودوارد، وإلا ستكون عواقب الانتقام وخيمة، أو على الأقل يكون هو من استشعر الحرج وقرر الرحيل حفاظاً على عدم التربص بناديه، وهو ما لا ينطبق على فلورنتينو بيريز، العقل المدبر ومدير المجموعة ككل، لأنه رئيس منتخب من الأعضاء، ورحيله مستحيل.
مشهد النهاية:
أسدل الستار مؤقتاً على الأمر، ولكن تظل في الأذهان عدة أسئلة: هل سيتربص الاتحاد الأوروبي بتلك الأندية ويعاقبها بطريقة ما غير مرئية للجميع؟
أم يغلق ذلك الملف برمته ويعاود التودد لها مرة أخرى لإصلاح ما فسد؟
ولكن يبقى السؤال الأهم:
هل بعد كل تلك السنوات والأفكار والحصول على عرض تمويل ضخم مثل هذا ستكتفي الأندية بالرجوع للخلف مرة أخرى وتغلق هذا الملف للأبد؟
أرى أن هذه الفكرة التي نبتت في ظرف استثنائي ستبقى في رؤوس من فكروا فيها ونفذوها وأخرجوها للعلن، في انتظار لحظة مناسبة مرة أخرى لإعلانها، وقت أن يكونوا قد استوعبوا أخطاءهم واقتربوا من مناطق قوتهم ونقاط ضعفهم. وقتها ستكون الأمور أصعب على الاتحاد الأوروبي والدولي، وأصعب على الأندية المتنافسة، وسيحتاج الجميع لمجهود ضخم لإيقاف زحف أفضل 15 نادياً في العالم.
أرى أن البطولة سترى النور يوماً ما،
ولكن متى؟ هذا ما لا نعلمه جميعاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.