تعيش تونس اليوم على وقع تطورات سياسية غير مسبوقة لم تعرفها البلاد طيلة 10 سنوات، حتى خلال أزمة صائفة 2013 بعد الانقلاب العسكري في مصر والاغتيالات السياسية التي أسقطت حكومة الترويكا، ودفعت الفرقاء إلى حوار وطني انتهى بخارطة طريق سياسية بعد تنازل حركة النهضة عن السلطة طواعية.
خطورة هذه التطورات تكمن في كونها تأبيداً لأزمة سياسية انطلقت منذ أشهر دون أي أفق يبشّر بنهاية النفق.
إذا كانت الأزمة السياسية قد عرفت أوجها خلال الأشهر الأخيرة، فإن جذورها تعود إلى بداية شهر سبتمبر/أيلول، تاريخ نيل حكومة المشيشي التزكية البرلمانية، بعد اتّفاق مع كل من حركة النهضة، وائتلاف الكرامة وقلب تونس (أغلبية برلمانية جزئية)، الأمر الذي أثار حفيظة رئيس الجمهورية قيس سعيد، الذي اختار المشيشي لتشكيل الحكومة يوم 25 يوليو/تموز 2020 على أن تكون حكومة كفاءات مستقلة عن الأحزاب تمرّ بقوة الأمر الواقع في البرلمان (سقوط الحكومة يعني حلّ البرلمان).
تمرّد المشيشي على رئيس الجمهورية تواصَل على مدار أشهر بمحاولته تحجيم نفوذ القصر، وإقالة كل الوزراء الذين فرضهم الديوان الرئاسي خلال مشاورات تشكيل الحكومة، فكانت إقالة وزير الثقافة وليد الزيدي ثم إعفاء وزير الداخلية توفيق شرف الدين (يوصف بأنه عين رئيس الجمهورية في الحكومة) ثم كانت ضربة الراعي بلغة الشطرنج، عبر التحوير الوزاري في شهر يناير/كانون الثاني بإعفاء 9 وزراء جميعهم يدينون بالولاء لقصر قرطاج.
تحوير رفضه قيس سعيد مؤكداً في مجلس الأمن القومي (الذي سبق الجلسة البرلمانية للمصادقة على التعديل) في كلمة شديدة اللهجة، أنّه لن يقبل بهذا التحوير المخالف لنص الدستور، باعتبار أن 4 وزراء تتعلّق بهم شبهات تضارب مصالح وفساد، علاوة على عدم دستورية مرور التحوير الوزاري على البرلمان.
تعطيل الحوار الوطني
في شهر ديسمبر من سنة 2020 تقدم الاتحاد التونسي للشغل (أكبر منظمة عمالية) بمبادرة لحوار وطني اقتصادي واجتماعي و سياسي للخروج من الأزمة، واختار لها رئاسة الجمهورية جهةً للإشراف.
غير أن قيس سعيد اشترط تشريك الشباب من كل الجهات في هذا الحوار لتقديم مقترحات وذلك في إطار هيكلية، تجسّد تصوّره للحكم القائم على الانطلاق من القاعدة نحو المركز في إطار ما يعرف بالديمقراطية المباشرة، أو النظام المجالسي، وهو ما قوبل بالرفض من جلّ الحساسيات السياسية وجهة المبادرة باعتبار أن هذا التمشّي لا يعكس جوهرها التي تقوم فلسفتها على إيجاد خارطة طريق سياسية بالأساس للخروج من الأزمة السياسية الخانقة التي تكبّل البلاد بالتوازي مع وضع اقتصادي واجتماعي صعب، وجائحة كورونا التي كانت ارتداداتها كارثية على التوازنات المالية.
مماطلة قيس سعيد ومراوحته بين الشد والجذب في تفاعله مع مبادرة الاتحاد والنَوْسِ بين القبول المشروط والتلكؤ، انتهت رسمياً خلال زيارته لمدينة المنستير يوم 6 أبريل/نيسان (في ذكرى وفاة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة) وتأكيده على رفضه الحوار مع من سمّاهم الفاسدين وأصحاب المقاربات غير الوطنية، ليغلق بذلك ملف الحوار الوطني نهائياً على الأقل بصيغته التي يكون فيها تحت إشراف رئاسة الجمهورية ليعلن الاتحاد التونسي للشغل عن مروره للخطة "ب" دون تقديم أي تفاصيل إضافية حتى اللحظة، وهو ما يعزز فرضية تواصل حالة الانسداد التي تأكّدت مع السلوكيات السياسية الأخيرة لرئيس الجمهورية قيس سعيد، برفضه ختم قانون انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية وردّه إلى البرلمان، مع التلويح بعدم ختمه نظراً لتجاوز الأجال القانونية (الدستور التونسي ينص على تركيز المحكمة الدستورية سنة واحدة بعد انتخابات 2014).
زيارة رسمية إلى مصر.. ماذا وراء الأكمة؟
قام رئيس الجمهورية قيس سعيد بزيارة رسمية 3 أيام إلى القاهرة بداية شهر أبريل/نيسان، زيارة أثارت جدلاً كبيراً بالنظر إلى حفاوة الجانب المصري بروتوكولياً بالضيف، والتماهي الذي أظهره الرئيس التونسي مع الموقف المصري خاصة في ملف سد النهضة الإثيوبي والدعم غير المشروط من الرئيس التونسي لمصر في قضيتها التي وصفها بالعادلة.
موقع almonitor الأمريكي رجّح بأن تكون زيارة قيس سعيد إلى مصر مندرجة في إطار سياق بحثه عن أوراق جديدة في معركته الداخلية مع حركة النهضة، حيث ناقش مع نظيره المصري الملفّ الأمني ومحاربة الإرهاب والتطرف، فتصريح السيسي أشار ضمنياً لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر منذ سنة 2013 بعد الانقلاب الدموي.
واعتبر التقرير أن الرئيس التونسي قيس سعيد استغل هذا الموقف لتدويل خلافه الداخلي مع حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية، حيث ظهر سعيد وكأنّه يطلب الدعم من الرئيس المصري في هذا الملف وهو ما يمكن أن يعمق الفجوة مستقبلاً بين الرئيس التونسي وحركة النهضة.
قيس سعيد.. القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية!
مباشرة وبعد أيام قليلة من عودته من زيارته المثيرة للجدل إلى مصر، قال قيس سعيد إن رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والأمنية والمدنية ولكل الأسلاك التي وردت في القانون المتعلق بالقوات المسلحة، وذلك في كلمته التي ألقاها في قصر قرطاج بمناسبة العيد الوطني لقوات الأمن الداخلي، بحضور قيادات أمنية ورئيس البرلمان راشد الغنوشي ورئيس الحكومة هشام المشيشي.
تصريحات سعيد (التي لوّح فيها بالصدام باقتباسه لبيت شعري لامرئ القيس "اليوم صبر وغدا أمر") فتحت الباب على مصراعيه أمام جدل دستوري جديد وفصل جديد من التنازع على الصلاحيات والاختصاصات بين السلطات، في تواصل لحلقة الصراعات المفرغة التي تدور فيها البلاد مع غياب محكمة دستورية مختصة في فض النزاعات القانونية والدستورية بين السلطات، وهو ما مكّن رئيس الجمهورية من احتكار تأويل النص الدستوري وفق أهوائه؛ سعياً منه إلى فرض رؤيته السياسية لنظام الحكم.
تصريحات رئيس الجمهورية وإن كانت قد وجدت نوعاً من المقبولية لدى جزء من الرأي العام الذي سئم المشهد السياسي والمنظومة الحالية، فإنها أثارت حفيظة أغلبية مكونات الطيف السياسي والنخب.
حركة النهضة، الحزب الأغلبي في البرلمان التونسي أصدرت بياناً شديد اللهجة لمكتبها التنفيذي حمل توقيع رئيسها راشد الغنوشي رئيس البرلمان، استغربت فيه من عودة رئيس الدولة إلى خرق الدستور، كما اعتبرت إعلانه نفسه قائداً أعلى للقوات المدنية الحاملة للسلاح دوساً على الدستور وقوانين البلاد، وتعدّياً على النظام السياسي وعلى صلاحيات رئيس الحكومة، مؤكدة أن إقحام المؤسسة الأمنية في الصراعات يمثل تهديداً للديمقراطية والسلم الأهلي ومكاسب الثورة، رافضة بذلك المنزع التسلطي لقيس سعيد داعية القوى الديمقراطية إلى رفض هذا المنزع واستكمال البناء الديمقراطي وتركيز المحكمة الدستورية وذلك بحسب نصّ البيان.
بلاغ حركة النهضة والذي كان شديد اللهجة خلافاً لمنهجها السياسي القائم على المهادنة والجنوح نحو التوافق وتغليب لغة العقل والحوار قدر الإمكان، تقاطع مع مواقف جلّ الأحزاب سواء منها البرلمانية أو غير الممثلة في مجلس النواب، علاوة على الشخصيات الوطنية وبعض فقهاء القانون الدستوري، وهو ما يعكس توجّس جميع الفاعلين السياسيين ومكونات المجتمع المدني من توجّهات رئيس الجمهورية السلطوية، التي من شأنها أن تؤثر على المسار الديمقراطي ومناخ الحريات الذي تعيشه البلاد منذ عقد من الزمن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.