ثمة من ينظر إلى التكنولوجيا على أنها حياة بتنا نعيشها في كل ما نقوم به من أنشطتنا اليومية، وثمة من لا يزال يعتبرها أداةً ووسائل تساهم في تحسين نوعية الحياة وكيفيتها، وثمة من يسهب في بحر الخيال عما ستؤول إليه أنماط الحياة وأشكالها بعد زمن قصير بفضلها، وأصوات أخرى تحذر من وحش التكنولوجيا الذي بات قاب قوسين أو أدنى من ابتلاع إنسانية الإنسان وتحويله بذاته إلى أداة تستخدمها التكنولوجيا وليس العكس. ومهما تعددت الآراء، فالجميع متفق على سيطرة التقنيات الحديثة وأنماطها واتجاهاتها على تفكير أفراد المجتمعات واهتماماتهم.
التكنولوجيا في الحياة اليومية
ساهمت التطورات المتسارعة والمتكاملة في عالم التكنولوجيا في جعلها جزءاً أصيلاً من الاستخدام اليومي لغالبية البشر وبمختلف الفئات العمرية وعلى اختلاف الاهتمامات والمجالات، فالانتشار الواسع للإنترنت والهواتف الذكية واللوحية والحواسيب المحمولة وبقية الأجهزة الإلكترونية والبرامج المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي، قاد أفراد المجتمعات إلى قضاء ساعات من حياتهم اليومية أمام الشاشات مستخدمين للتكنولوجيا بكثافة وتصاعد، وساهمت جائحة كورونا في زيادة هذا الاستخدام بشكل غير طوعي في كثير من الحالات، للتعليم والعمل وغيرهما من مناحي الحياة.
وقد عملت التكنولوجيا ضمن سياق تطورها الطبيعي على تغيير أنماط الاتصال والتواصل الإنساني، وهي في ذلك قدمت كفاءة عالية وسرعة وسهولة في التواصل، بل وجعلت المرء متوافراً في كل وقت، وحمل ذلك كثيراً من الإيجابيات والمآخذ.
مع كل هذا التصاعد في الاستخدام، علت أصوات كثيرة محذرة من تداعيات ذلك على المجتمع، على علاقاته الوجاهية الطبيعية، على الصحة الجسدية والنفسية وعلى السلوكيات العامة وحتى في إطار الأسرة، غير أن الأمر لم يزل بعيداً عن تأطير هذا الاستخدام وبناء سياقات عامة وأسس له بما يضمن أقصى استفادة منه وتجنب السلبيات والأضرار.
التكنولوجيا في التعليم
حظيت التكنولوجيا في العملية التعليمية باهتمام مبكر، وقد تنبته كثير من الجامعات ومؤسسات التعليم العالي منذ زمن للقيمة الإضافية العالية التي يمكن للتكنولوجيا أن تقدمها، فبنت منظومات إلكترونية كاملة لدعم العملية التعليمية بالمواد والتواصل والتفاعل. ومن ناحية أخرى فقد ساهم إنشاء أكاديميات متوافرة على الإنترنت بتغيير أنماط التعليم وأساليبه التقليدية ليسهم بذلك في توفير المعلومة لجميع أنحاء العالم وجسر الهوة التعليمية بين مختلف دول العالم، وقد شكل ذلك نقطة تحول نحو استثمار المعرفة ونشرها بأسس أكثر عدالة.
وفي ظل جائحة كورونا العالمية سارعت مختلف دول العالم لتجميد التعليم الوجاهي واستبداله بالتعليم اعتماداً على التكنولوجيا، من أجل تحقيق التباعد الاجتماعي، وصاحب ذلك نقاشات كثيرة حول مدى كفاءة هذا النوع الجديد كبديل كامل عن التعليم التقليدي، ورغم تطوير كثير من الأدوات التكنولوجية لدعم هذا النوع من التعليم، بقيت كثير من الأصوات تعتبره بديلاً يقتصر للكفاءة. وقد بدا أنه ما زال هناك قصور اجتماعي وفردي للتعامل مع هذا النوع من التعليم بالجدية الكافية. وعلى قدر نجاح تجربة تكييف التعليم السريع لإيجاد حل لجائحة عالمية، فإننا نرى أن الأدوات والوسائل تم فرضها دون تحضير أرضية فكرية وثقافية ومجتمعية لكيفية التعاطي القويم مع كل هذه الأدوات والأنماط الجديدة في الحياة التعليمية. ومن هنا تبرز الحاجة لبناء منظومات فكرية وأخلاقية واجتماعية وإنسانية تعيد بناء مفاهيم ذهنية جديدة للعملية التعليمية في ضوء الاستخدامات المتجددة للتكنولوجيا في هذا المجال.
التكنولوجيا في العمل
وفي مجالات العمل على اختلاف أطيافها، كان للتكنولوجيا نصيب كبير في صناعة تغييرات جوهرية على أساليب العمل وأدواته وأنماطه، لتصبح التقنية لبنة أساسية في هذا المضمار، وأياً كان مجال العمل، من ورشة صغيرة أو سيارة أجرة، إلى شركة كبيرة أو مصنع أو مؤسسات خدمية أو إعلامية فستجد أنك أمام منظومات تكنولوجية وبرامج متنوعة من أجل تنظيم العمل ومتابعته وأرشفته وتقديم الخدمات والإجراءات، إضافة إلى التواصل في بيئة العمل والحصول على المعلومة، وكان لذلك عظيم الأثر في رفع الإنتاجية وزيادة الشفافية.
وبهذا السياق فقد تم خلق بيئة عمل قائمة على أسس جديدة، ما حمل مزيداً من التحديات والإشكالات المتنوعة والمتجددة أمام أرباب العمل والعاملين على حد سواء. وقد صار العمل بعد أمراً مقبولاً ودارجاً، سواء من خلال مقرات منتشرة حول العالم للشركات والمؤسسات، أو من خلال العمل من البيوت لكثير من المهن، ولم يخل هذا النمط الجديد من الصراعات بين أرباب العمل والعاملين، إضافة إلى خلقه لصدامات ثقافية جديدة، فالبيت الذي اعتاد الناس عليه في الفلسفة الذهنية كمكان آمن ومريح، بات مكاناً للعمل والإرهاق والتوتر الذهني والجسدي.
وفي هذا الإطار نجد أن ثمة هوة فكرية وثقافية بين ما استجد من أدوات تكنولوجية سريعة وأنماط عمل جديدة وبين النمط الذهني التقليدي حول العمل وأساليبه وطرقه ووسائله، إضافة إلى وجود أطراف متعددة وجدت نفسها تستخدم الأدوات والطرق الجديدة، فمن العملاء إلى المزودين وعامة المستهلكين للخدمة. ويحتاج الأمر إلى الكثير من التأطير الفكري والثقافي لكافة الأطراف بما يحقق منظومة الأخلاق والمصالح التي تدفع بيئات العمل نحو أفضل الإنجازات.
التكنولوجيا والصحة
أما عن القطاع الصحي، فقد حقق تقدماً وازدهاراً باستخدام التكنولوجيا وتطوراتها من أجهزة وأدوات ومعدات ساهمت في تحسين جودة الحياة، وطورت البحث العلمي ومناهجه، وأساليب العلاج والرعاية الصحية، إضافة إلى حلول مبتكرة وخلاقة لمشكلات لطالما أرقت الإنسان كاستخدام الأطراف الصناعية وغيرها مما جعلنا نشعر بعظيم الامتنان والأثر.
لكن من نواحٍ أخرى فالانتشار الواسع والاستخدامات المكثفة للتكنولوجيا والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أوجدت مشاكل وتحديات صحية جديدة، كأوجاع الظهر والعنق، ومشاكل في النظر والسمع إضافة إلى اضطرابات النوم والأرق وغيرها من المشاكل الجسدية. ولا تقل المشكلات النفسية أهمية إذ ظهر الاكتئاب وأمراض القلق والإدمان كحالات نتجت عن سوء الاستخدام أو عدم السيطرة عليه.
وفي ذات الإطار تحتاج الأبعاد الصحية الشخصية والمهنية منا إلى عناية خاصة بما يضمن تحقيق المنافع ودرء المفاسد، مما يتطلب تقديم إطار فكري إنساني جامع يحقق ذلك بمنهجية وثبات.
التكنولوجيا والأطفال
الأطفال سريعو التأثر والتقليد والمحاكاة والتعلم، ولديهم قدرة ومرونة عالية على التكيف، وفي حياة بات الجميع من حولهم يستخدم الهواتف والأجهزة الذكية والشاشات، لم يكن مستغرباً أن ينخرطوا مبكراً جداً في هذا العالم، فإنك لتجد الطفل قد صار يعرف استخدام بعض تطبيقات الهاتف الذكي، قبل أن يتقن الكلام. وفي ذلك ما فيه من فوائد وسلبيات. إذ قدمت التكنولوجيا لهم مصادر غنية للترفيه واللعب والمعرفة المتنوعة التي تكاد تدهش الكبار في كثير من الأحيان، غير أن المتعة التي يحصلون عليها من هذه الأجهزة جعلتهم ينحون تدريجياً نحو الإدمان في كثير من الأحيان، ويرافق ذلك آثار على صحتهم الجسدية والنمو، وصحتهم النفسية وتفاعلهم مع المجتمع المحيط، وانسحب ذلك على الابتعاد عن اللعب التقليدي الواقعي الذي يساهم في تطوير مهاراتهم الحركية والفكرية.
يقف الأهل حائرين أحياناً مستسلمين أحياناً أخرى أو في صراع مع أطفالهم أحياناً من أجل التقنين والسيطرة على هذا الاستخدام، وتخرج الكثير من التوصيات الكثيرة من الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين للأهل بضرورة الوقوف بحزم أمام هذه الظاهرة، إلا أن واقع الحياة والانشغالات بل واستغراق الأهل ذاتهم في هذه الأجهزة جعل الأمر أكثر صعوبة على الأهل في ظل غياب منهجية مجتمعية متكاملة للتعامل مع هذه الظاهرة والسلوكيات المتنامية. لذا يحتاج الأطفال منا إلى تقديم منظومة واعية للواقع للتعامل مع معطيات التكنولوجيا بإيجابية ودون جلد لا يأتي بالنفع.
التكنولوجيا نهج حياة جديد
دخلت التكنولوجيا في مناحي الحياة المتعددة فأحدثت تطوراً ملموسا وتغيراً في أنماط الحياة وأساليبها، وتركت آثارها السلبية كما الإيجابية، وحملت إشكالاتها وتحدياتها ومخاطرها معها حيثما حلت. غير أننا واجهناها منفردين أو متكيفين بتلقائية وعفوية دونما استعداد فكري ومنهجي وإنساني للتعاطي معها كنهج جديد للحياة، فشكل ذلك عبئاً إضافياً على الأفراد والمجتمعات.
وللتعامل الأمثل مع الحياة في عصر التكنولوجيا تبرز الحاجة لبناء منظومة فكرية اجتماعية إنسانية أخلاقية تتعمق في تداخلات التكنولوجيا المتعددة في حياتنا وآثارها وأبعادها ووسائل مواجهتها وتحقيق أقصى فائدة منها، فالوعي قوة والإدراك والاستعداد النفسي والمعرفي يمكننا من خوض غمار هذا العالم التكنولوجي بكفاءة وثقة وثبات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.