أقوم حالياً بمراجعة وتحرير أحد الكتب المترجمة إلى العربية، وهذا يتطلب أشغالاً كثيرة، ليس فقط مقارنة الترجمة بالأصل الألماني والتأكد من دقتها، ولكن أيضاً تدقيق الشواهد العربية الأصل وتصحيح كل ذلك لغوياً بالطبع. وهذا كله أمر مرهق بالفعل لدرجة أنني تمنيت لو وافقت على ترجمة الكتاب حين عرض عليّ من قبل.
المهم وأنا أدقق أحد النقول عن كتاب "النشر" لابن الجزري وقع نظري على قوله تعالى: "وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ" (سورة المائدة، آية 14).
الحقيقة تسمرتُ أمام الآية الكريمة وكأنني أراها للمرة الأولى! إذ كيف لم أنتبه من قبل لهذه الجزئية التي تقول: (فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ). ونسيت ما كنت أفعله ورجعت للتفاسير المتاحة لأرى ما تقول فإذا هي كلام عام مبتسر وشرح لغوي لا يسمن ولا يغني من جوع معرفي. وهذا غريب بالفعل إذ كيف تفسر ما جاء عن المسيحية في القرآن وأنت لا تعرف تاريخ المسيحية نفسها؟!
الغريب أنك عندما ترجع للكتابات الغربية النقدية حول المسيحية وتاريخها تجد أنها تقول تقريباً ما اختصرته هذه الآية الكريمة في سبع كلمات لا غير.
فأحياناً قد يظن المرء أن الأناجيل الموجودة وحي منزل بالكامل، بينما المتضلعون في دراسة المسيحية من الغربيين يعرفون أنها ومنذ البداية لا يمكن أن تكون كلها وحي منزل، ومن يعرف التراث الإسلامي منهم يقول إنها تضاهي أو تشابه "السير النبوية" في التراث الإسلامي؛ لأنها ببساطة تتحدث عن حياة المسيح (عليه السلام) مثلما تتحدث "السير النبوية" عن حياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
فالأناجيل الموجودة الآن شواهد على وجود شخص المسيح، وهي لم تكتب إلا على أيدي تلاميذ الحواريين أي بعد فترة طويلة من اختفاء المسيح التاريخي. كل حواري علم تلاميذه ما لمسه بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن المسيح الذي رآه وسمعه وتتلمذ على يديه.
وكما نعرف فقد قُتل الحواريون بطرق بشعة قبل عام 65 ميلادية. ومات شهود العيان الذين عاينوا المسيح شخصياً. ومن ثَم قام تلاميذ الحواريين، أي الجيل التالي الذي لم ير المسيح نفسه، بكتابة ما استوعبوه من ذكريات الحواريين، وبالطبع لم يعوا كل شيء وإنما كما تقول الآية الكريمة (فَنَسُواْ حَظًّا).
والآن نعرف أنه كان يوجد عدد كبير من هذه الكتابات التي تحوي ذكريات عن المسيح. وفقط في سنة 180م اختارت الكنيسة الأم أربعة من هذه الكتابات أو الذكريات وأعلنتها نصوصا رسمية أو شرعية وأطلقت عليها اسم "الأناجيل".
أما بقية الكتابات أو الذكريات فلم تعترف بها الكنيسة ولذا أطلقت عليها اسم (أبوكريفا) أي "منحولة"، ومن أشهرها بيننا "أنجيل برنابا" و"إنجيل الطفولة العربي". وفي مخطوطات نجع جمادي وجد عدد كبير جداً من هذه الكتابات أو الذكريات التي لم تعترف بها الكنائس.
وحتى الأناجيل الأربعة التي أقرتها الكنيسة لم يعترف بها كنصوص منزلة حرفياً. وإذا رجعنا إلى كتابات آباء الكنيسة سنجد أن كلاً منهم كان عندما يقتبس أي إنجيل يقول "وكما جاء في إنجيل كذا" ويذكر معنى الآية التي يقتبسها بأسلوبه الخاص ولا يذكرها حرفياً، مما يعني أنهم ربما كانوا يعتبرون أن المعنى لا اللفظ هو المهم.
ومن هنا فموضوع اتهام الأناجيل بأنها محرفة لا يؤثر في شيء بالنسبة للمتخصصين، لأنهم يقولون بأن الأناجيل الأربعة ليست سجلاً حرفياً لكلام الله كما هو الحال مع القرآن، وإنما هي شهادات واختيارات لأشخاص آمنوا بالمسيح وانفعلوا به وبتعاليمه. بل زاد بعضهم فقال بأن الوحي في المسيحية ليس كلاماً يجب تسجيله حرفياً كالقرآن وإنما هو شخص المسيح نفسه، لأنه هو كلمة الله التي تجسدت بشراً. فالمسيح في رأيهم لم يأت ليوصل رسالة نصية وإنما جاء ليوصل نفسه شخصياً، فهو نفسه الرسالة.
وهذا أمر قديم بالمناسبة وكان معروفاً لعلماء الإسلام منذ زمن. ويحضرني الآن على سبيل المثال نص جاء في الفهرست لابن النديم على لسان أبي العباس البغوي قال: "دخلنا على فثيون النصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي [من بغداد]، فجرى الحديث إلى أن سأله محمد بن إسحاق الطالقاني، فقال: ما تقول في المسيح؟ قال: ما يقوله أهل السنة المسلمون في القرآن" (الفن الثالث – المقالة الخامسة).
وكم من مرة سمعت دارسين متضلعين في المسيحية وهم يرفضون وصف المسيحيين بأنهم أهل كتاب، ويقولون بأن المسلمين ينطبق عليهم وصف "أهل كتاب" أكثر من المسيحيين، لأن الحياة الدينية للمسلمين تدور كلها على كتاب هو "القرآن" بينما الحياة الدينية للمسيحيين تدور على "شخص المسيح" وتجربته، ولذا فهم يقولون إن المسيحيين هم "أهل المسيح" وليسوا "أهل كتاب" كالمسلمين واليهود.
وخلاصة الأمر أن هؤلاء المتضلعين في اللاهوت المسيحي يقولون بأن الأناجيل ليست هي الوحي خالصاً، ولكنها خبرة حياتية مع الوحي. ولذا لم يذكر فيها من الوحي إلا ما له صلة بهذه الخبرة.
أين إذن بقية الوحي نفسه؟ وظني أنك الآن فهمت لماذا تقول الآية الكريمة: "فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ".
ولاحظ أن الفاء التي دخلت على (نَسُوا) تدل على سرعة هذا النسيان. المدهش هنا أيضا جزئية: (مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ). فكما نعلم أن المسيح عليه السلام لم يكن مسيحياً قط! بل ولد كيهودي وعاش كيهودي في بيئة يهودية خاضعة للتأثير الروماني.
وآنذاك كانت العقلية اليهودية تؤمن بفكرة انتظار "المسيح الموعود" الذي سينتقم لهم من أعدائهم. وفي هذه البيئة وجد المسيح التاريخي ثم اختفى دون أن يدعو لدين جديد، ولكن لتذكير اليهود بدينهم الذي زاغوا عنه، وإقناعهم بأنه هو المسيح الذي ينتظرونه، وهذا ما تقوله آية سورة آل عمران على لسانه: "وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ" (آية 50).
ولكن بعد رفعه وقتل تلاميذه انفرد (بولس) رغم أنه لم يكن من تلاميذ المسيح، بإقامة قواعد الدين الجديد، أي "المسيحية" التي لم يدع إليها المسيح، ثم عمل مع غيره بالطبع على فصلها عن اليهودية. ولذا يرى البعض أن "المسيحية" كما نعرفها تنتمي لبولس أكثر من انتمائها للمسيح! والله أعلم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.