لم تترك الحرب مساحة صغيرة في اليمن دون أن تقتلها وفي أقل تقدير أن تجرحها، لم تترك الحرب باليمن شجرة دون أن تصل لصميم جذورها وتجرحها، الجدران تبكي من الحرب والشوارع سئمت من دماء الأبرياء ومن الزجاج المتناثر بعد كل غارة جوية، حتى سئمنا الموت الذي جَرَّب على اجسادنا كل الطرق.
الحرب التي وصلت إلى أرواحنا وجعلت كل يمني تنفجر بداخله عُقد نفسية لا حصر لها، والقصص التي أجبرتنا الحرب على أن نعيشها، مأساويةٌ، وليس علينا أن نفتش عنها، فبجوارنا تعيش مئات المآسي، وفي كل منزل صنعت الحرب مأساة، وفي كل شارع وحي ومدينة، جعلتنا الحرب نعلن كل يومٍ عن عزاء ونقدّم واجب التعزية في معارفنا وأقاربنا، ستة أعوام وقد تعبت حوافر أرجلنا من المشي خلف التوابيت، مشينا على توابيت أطفال ونساء وشيوخ ورجال وأطباء ومهندسين ومدرسين وشعراء ورجال مقاتلين.
فمنذ السادس والعشرين من مارس/آذار عام 2015 ونحنُ بجنازة كبرى لم تنتهِ بعدُ، فلم تترك الحرب منزلاً ألا وصنعت بداخله عزاء وجعلت الشوارع في كل يوم تستقبل جنازة حتى تحول اليمن منذ ستة أعوام، إلى بلاد الجنائز والتوابيت، الحرب حطمت أحلامنا، حوَّلت أحباءنا شهداء وجرحى وآخرين بلا أطراف وآخرين أصبحت آخر أحلامهم وأمنياتهم أن تتوقف الحرب.
أنا مثل أولئك الذين توغلت الحرب في أجسادهم وتقتات كل يومٍ شيئاً منهم، أنا مثل أولئك الذين طارت إلى مسامعهم الموبوءة بأصوات القذائف والطائرات وتكبيرات صلاة الموتى، أن الحرب ستتوقف ويُفتح مطار صنعاء. وفي داخلنا تنفجر فرحة ظلت مكبوتة لمدة ستة أعوام، فرحة ظهرت فجأة في أفئدة ملايين من اليمنيين تناقلوها سريعاً، انتشرت بين ذرات الهواء، عبَرت المدن وجبهات القتال وخطوط التماس، أصبحت أهم من كل شيء، أهم من عودة كورونا، أهم من قدوم رمضان وارتفاع أسعار المواد الغذائية وانعدام القمح، أكثر من عدم دخول سفن النفط المحاصرة ولم تدخل سفينة واحدة من بداية العام، أهم حتى من معرفة هل ستعود الرواتب من عدمه، لا يهم كل ذلك، فكورونا ليست أبشع من الحرب التي نعيشها منذ سنين.
سنتغلب على كل شيء بعد توقف الحرب، فنساء الحي بدأن ببناء سعادتهن بتبادل التهاني، وشاب في مأرب بدأ يعيد ترتيب أولوية أحلامه، يكتب على بندقيته ذكريات الحرب اللعينة، وطفلة في السادسة يرتفع صوتها الفرائحي بشوارع صنعاء القديمة "سيعود أبي سيعود أبي"، فأمها أخبرتها بأن والدها لن يعود ألا عبر مطار صنعاء، وأخرى في مدينة إب ترى من خلف زجاج العناية المركزة على والدها الذي يحتاج للعلاج في الخارج وقد ارتسم الزجاج بأنفاسها الفرائحية وهي تفكر في الذهاب فوراً لتقطع تذاكر السفر، وصاحب المرض المزمن سقطت دموعه تحت ظلال قلعة القاهرة، فبمقدوره زيارة ابنته في الحوبان، وطفل في صعدة أعاد تنظيف مكان والده الذي سيخرج من الأسر، وفتاة في عدن تريد العودة إلى صنعاء لتكمل دراستها الجامعية، وأنا مثلهم شعرت بتلك الهالة من الفرح تملأ صدري، فيمكنني أخيراً زيارة قبر صديقي الفنان رائد طه في عدن؛ لأخبره بأن الحرب توقفت.
لكننا صمدنا، أُصبنا بخيبة أمل، انطفأت تلك الفرحة بأسرع ما يمكن، لم تكن سوى مبادرة عقيمة، مولود بلا مشيمة، خبر صحفي عابر، نوايا مغتصَبة، لم تكن تحمل هموم وأحلام ثلاثين يمنياً يتمنون في كل حين أن تتوقف الحرب، فعُدنا بخيبتنا وسجننا الكبير ونحنُ نردد: "سنخبر الله بكل شيء".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.