في طفولة بلا ملامح أو محددات؛ أستطيع أن أتبين بوضوح عشقي للسينما، للصورة، للمرئي.. نعم، هذا واحد من الأمور القليلة التي أستطيع تأكيدها في حسم، ذلك الطفل الصغير هناك كان يعشق السينما، يعشقها بجنون، يجد من الدوافع والمسوغات ما يكفي ليكون فيلم "nine" هو فيلمه المفضل، وبطله المخرج جويدو كونتيني -الذي لعب دوره العبقري دانييل دي لويس- مثله الأعلى، ربما لأن محاولة التسويق لفيلم لا وجود له كانت مغامرة شيقة، أو لأن تحكم كونتيني في كل شيء من خلف الكاميرا كان أمراً مغرياً أو جديراً بالإعجاب، لا أدري!
كبر الطفل، وأنهى دراسته الجامعية، وتسلم وثيقةً تفيد بحصوله على بكالوريوس الهندسة من قسم الميكاترونكس، مهندس إذاً، هذا هو قدري! لم أدرِ ما سبب الشعور الدائم بالغربة عن هذا اللقب وذلك التخصص! كأن أحدهم قد كتب اسمي في هذه الوثيقة بطريق الخطأ، هو خطأ بشري من موظف منهك أو متشاغل بلا شك.. لا مشكلة، هذه الأمور تحدث عادةً!
لسبب ما ظللت أحتفظ بهذه الوثيقة المغلوطة بين أغراضي، وظللت محتفظاً بهذا اللقب بين الأصدقاء وفي مجالس العائلة، دون أن يزول الشعور بالاغتراب نحوه أبداً.
في الجامعة، كان لي نصيب في الأعمال التطوعية والأنشطة الطلابية، ولم يكن لأي منها صلة بمجال دراستي من قريب أو بعيد، يبدو أن الاغتراب لم يكن مجرد ميل خفي أو شعور دفين.
بعد الانتهاء من الجامعة، تعين عليّ تقديم أوراقي لأداء الخدمة العسكرية، ولأسباب إجرائية، كان بين حصولي على شهادة التخرج وبين موعد تقديم أوراق الخدمة العسكرية فاصل زمني من عشرة أشهر، فترة طويلة على أن أجلس دون نشاط يفيد، وقصيرة على أن أخطو خطوات جدية في حياتي العملية.. لم أستطع إيجاد فرصة للعمل في تخصصي الهندسي في تلك الفترة، بسبب عدم وضوح موقفي من التجنيد، ولم أشأ البقاء هكذا بلا حراك، لا بأس، ربما كان هذا ما ينقصني فعلاً! أن أعيش بلا ضغوط أو مطالبات، لتكن هذه الفترة للتجارب الحرة، تخففتُ من جميع الأثقال وتحللتُ من كافة القيود، وألقيت بنفسي في بحر الحياة تاركاً أمواج الرغبات الدفينة والأحلام القديمة تحملني إلى حيث شاءت.
للمرة الأولى -ربما- أختبر شعور فعل ما أريد، لا ما يجب عليّ فعله، بدأتُ في استكشاف عالم التصوير الفوتوغرافي بشغف غريب، ورغبة متفجرة، لم أكن وقتها أجيد التصوير كهاوٍ، فضلاً عن إجادته كمحترف، لكنه مع ذلك كان يحقق لي الإشباع النفسي المطلوب، كنتُ مصوراً بدرجة مُحب، وفقط!
اتسم سعيي للتعلُّم واقتحام المجال بالعشوائية الشديدة في تلك الفترة، لكن هذه العشوائية كانت تسمح من حين لآخر بأن أصادف بعض التجارب الغنية والنافعة داخل المجال، اقتنصتُ فرصة للتدرب لدى موقع "مصراوي" كمصور فيديو، وجدتُ نفسي مضطراً لمواجهة قدر لا بأس به من التعجب والاستغراب، ما الذي أتى بك إلى هنا؟ كيف تترك مجالاً واعداً وغنياً بالفرص الجيدة كالهندسة، وتتخلى عن الوجاهة الاجتماعية المكتسبة من حمل لقب "مهندس" بهذه السهولة؟ ومن أجل ماذا، تدريب غير مدفوع الأجر لدى موقع "مصراوي"!
لم أكن أمتلك -حينها- جواباً مقنعاً، أنا لا أعلم إلى أين أسير ولا متى أستقر، كنت تائهاً، وكان مذاق التيه لذيذاً!
وجدت في نفسي قدراً زائداً من الحب للتصوير الوثائقي خصوصاً، كنت أتمنى أن أنتهي من مرحلة التخبط هذه لأجد نفسي في آخر الأمر مشتغلاً به.
استمرت فترة التدريب لدى "مصراوي" أربعة أشهر، كانت تجربة قصيرة، لكنها كانت جيدة بعض الشيء، إلى أن أتى موعد تقديم أوراقي للالتحاق بالتجنيد، لا أستطيع تلقيب نفسي بالمصور بعد، أنا مهندس، مهندس ينتظر قضاء مدة تجنيده.
تأخرت بداية رحلتي الجادة مع التصوير إلى ما بعد الفراغ من أداء الخدمة العسكرية، كانت هناك محاولات لتطوير المهارات وزيادة الحصيلة المعرفية خلال سنة الخدمة بالطبع، لكنها لم تكن جادة بما يكفي، نظراً لطبيعة الظرف وضيق الوقت.
أنت الآن مسؤول كلياً، لم تعد القرارات والاختيارات بلا ضريبة أو كلفة، لم تعد تمتلك رفاهية التجربة بلا مطالبات وضغوط مادية واجتماعية.. كنت متأكداً مما أريد، لكن لم أكن قد اختبرت مدى استعدادي للتضحية في سبيل تحصيله.
لا أريد أن أكون شخصاً سميناً ثقيل الأنفاس بطيء الحركة، وأريد أن أكون مصوِّراً.. هاتان الرغبتان تمكّنتا من نفسي وسيطرتا عليّ كلياً، باسم الله أبدأ حياتي، وما تأخر من بدأ!
رغبتان متوازيتان بدأت بهما حياتي بعد الفراغ من الالتزامات الإجبارية، لم أكن راضياً عن حالتي الصحية، ورأيتُ التخفف من أثقال الجسد خطوة واجبة على طريق تحقيق الذات وتحصيل الرغبات، كان وزني حينها فوق الوزن المعتدل أو الطبيعي بنحو ثلاثين كيلوغراماً، قررت أن أقطع عن جسدي كل طعام وشراب ضار، لا سكر، لا مواد غازية، لا معلبات، وكالعادة: لا خطة لديّ، بل تحرك عشوائي مدفوع بالرغبة فقط!
أنا مدمن للسكريات، أعترف! عانيتُ ما يعانيه المدمن من أعراض الانسحاب في بداية رحلتي، لكن الوقت كان كفيلاً بعلاج كل شيء، بدأت أعتاد المذاق المعتدل للطعام والشراب، وأزاحت العادة الجديدة القديمة، فلم أعد قادراً على تقبل المذاق الحلو، سبحانك يا مغير الأحوال!
مع نهاية الشهر الثاني في نمط الحياة الجديد؛ حصلت على فرصة للعمل في إحدى الوكالات الإعلانية بالقاهرة الجديدة، كنت أخطو خطوات بطيئة على طريق أحلامي، بطيئة لكن ثابتة، وصبورة.
شعرت مع العمل الجديد بشيء من الاطمئنان، الآن انضبطت البوصلة، أنا على الطريق الصحيح.. كنت أنتظر أن تختفي الأعداد ذات الأرقام الثلاثة من على شاشة الميزان، لتحل محلها الأعداد ذات الرقمين، لأستشعر أني على الطريق الصحيح لتحقيق رغبتي الأخرى كذلك، النجاحات الصغيرة تحفزك للاستمرار والمتابعة، خصوصاً إذا ما بدأ شبح الملل في مطاردتك، واجتذابك تدريجياً في الاتجاه المعاكس، نحو عاداتك الأولى، وضلالك القديم!
تغيرت نظرتي للطعام، أنا آكل لأعيش، فقط لأعيش، أستمتع بتناول الطعام في حدود ضيقة جداً، تفويت قدر من المتعة الشخصية العابرة أفضل كثيراً من الوقوع ضحية لمرض أو فريسة لمشكلة صحية، تبدت لي من الحياة متع أخر، العدو لمسافات طويلة دون تعب، خفة الحركة، تناسق المظهر، حرية ارتداء ما أريد من الملابس.. تحولت ممارسة الرياضة بمرور الوقت من وسيلة لخسارة الوزن إلى متعة بحد ذاتها، وحصلت على ما أريد من المساعدة من أحد تطبيقات الهواتف الذكية، المغذاة ببرامج جاهزة للرياضة اليومية المنزلية، ومرة أخرى: ساعدتني الأهداف الصغيرة على الشعور بالإنجاز والتقدم، وبعد عام من الالتزام بالنظام الغذائي الصارم، وخمسة أشهر من المواظبة على ممارسة الرياضة؛ بدأت أستقبل التعليقات الإيجابية من الأصدقاء على مظهري، وكانت هذه التعليقات من جملة الحوافز للمتابعة والاستمرار.
وكان التصوير حاضراً في العديد من محطات هذه الرحلة، حيث شاركتُ في تغطية العديد من الفعاليات الرياضية في مختلف الرياضات للهواة والمحترفين، معتمداً على محصول العلاقات الثمينة الذي حصدته على هامش التخلص من السمنة وممارسة الرياضة.
الآن أقف في نقطة بعيدة من الطريق، أستطيع النظر إلى البدايات الحائرة، والخطوات الأولى العاثرة، دون تنكر لها أو تحرج منها، بعد أن أصبحت الآن شاهدة على ما حققت، وعلامة على المسافة التي قطعت، نعم، ما زلت أشعر أني لم أصل بعد، لكن يكفيني أني ما زلت على الطريق.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.