الواقع العام في لبنان يعكس حالاً من حبس الأنفاس على كلّ المستويات، في انتظار ما تخبّئه الأيام المقبلة من احتمالات وسيناريوهات خطيرة، تبعاً لاصطدام كل المساعي الداخلية والخارجية الرامية إلى تشكيل حكومة "المهمات" بعوائق مطالب رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل، في مقابل تصلُّب الرئيس المكلف سعد الحريري، برفضه لإعطاء الثلث المعطل لأي طرف، وتحديداً لعون وباسيل.
سياسياً يبدو الشق الداخلي اللبناني قلق بشكل عام، والشعور السائد لدى جموع اللبنانيين أنّهم صاروا متروكين لمصيرهم المجهول، على وقع الانهيار المالي والاقتصادي المتزايد، فكلّ القوى السياسية المتصارعة ترصد اتجاهات الرياح الفرنسية والأمريكية والعقوبات التي سيفرضها الاتحاد الأوروبي على من سمّتهم معطّلي تشكيل حكومة المبادرة الفرنسية.
حروب السياسة وانتظار الانهيار
والمراقب للواقع الداخلي اللبناني يطرح أكثر من علامة استفهام حول اشتعال الحروب السياسية على أكثر من خط، وخاصة بين البطريرك الراعي ورئيس الجمهورية، في ظلّ الموقف المتقدّم للراعي من ملف التدقيق الجنائي، والذي يمسك به عون كخيط نجاة أمام المجتمع الدولي، وربط القيام به وإنجاحه بتشكيل حكومة، وهذا ما يرفضه الراعي، معتبراً أن ولادة الحكومة والسماح بتشكيلها هو المفتاح لإعادة وصل ما انقطع مع الدول والقوى المؤثرة، أضِف إلى ذلك تلك الحرب القائمة بين الوزير جبران باسيل ومعظم الأطراف السياسية في لبنان، والتي باتت حرب بيانات يومية مع تيار المستقبل والقوات اللبنانية، فيما الواقع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
فيما يشقّ رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري طريقه إلى موسكو غداً، للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قبل أن يختتم الشهر في الفاتيكان، حيث يستقبله البابا فرنسيس، يعيش رئيس جمهورية أزمة اتهامه أداة تنفيذية لأجندة محور الممانعة في الإجهاز على الدولة، وسلخ الكيان اللبناني عن هويته العربية وهواه الغربي، فيما حتى بعض حلفائه يطالبونه بالتنحي وإفساح المجال لإجراء انتخابات نيابية ورئاسية مبكرة لإعادة تكوين السلطة، بعد أن وصل لبنان لهذا الدرك الأسفل من الواقع المأساوي.
ملف الترسيم إلى نقطة جديدة
من جهة ثانية، برز أمس تطور لافت حول موضوع الحدود البحرية، وتجلّى في إعداد مرسوم تعديل للمرسوم السابق، حيث أعلن المكتب الإعلامي في رئاسة مجلس الوزراء أن الأمانة العامة لمجلس الوزراء أحالت إلى رئاسة الجمهورية اقتراح وموافقة رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، على مشروع المرسوم المتعلق بتعديل المرسوم رقم 6433، بتاريخ 1 أكتوبر/تشرين الأول 2011، بعد أن وقّعه كل من وزيري الدفاع زينة عكر والأشغال العامة والنقل ميشال نجار، وذلك لأخذ الموافقة الاستثنائية عليه من رئيس الجمهورية، لإصداره وفقاً للأصول التي يتم اتّباعها في جميع الملفات التي تستدعي العرض على مجلس الوزراء، ويُستعاض عنها بموافقة مجلس الوزراء بخصوصها، بموافقة استثنائية تصدر عن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، على أن يُصار إلى عرض الموضوع لاحقاً على مجلس الوزراء على سبيل التسوية.
وبإقرار التعديل يكون لبنان قد تمكّن من تثبيت حقوقه في البحر المتوسط على مساحة تصل إلى 2290 كلم مربع، بدلاً من 860 كلم مربع. ويعني أن انطلاق خط التفاوض يبدأ من النقطة 29 بدلاً من النقطة 23، التي كانت أدرجت في المرسوم الذي أقر في العام 2011. وبتوقيع رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ووزيري الدفاع والأشغال العامة يكون قد أسدل الستار على المزايدات بين القوى السياسية في الداخل، لتتوجه الأنظار نحو تبليغ الهيئة الأممية.
وفيما يعوّل لبنان على أن يكون هذا التعديل أساساً في المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل برعاية الأمم المتحدة، لفت موقف تصعيدي لإسرائيل عَكسه وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينيتز، وقال فيه إنّ خطوات لبنانية أحادية الجانب ستقابل بخطوات إسرائيلية موازية. وجاء كلام شتاينيتز عقب إعلان لبنان توقيع تعديل لتوسيع المنطقة البحرية المتنازع عليها مع إسرائيل، ما يرفع سقف المطالب اللبنانية خلال مفاوضات ترسيم الحدود. والتعديل على مطالبة لبنان الأصلية المقدمة إلى الأمم المتحدة سيضيف حوالي 1400 كيلومتر مربع إلى منطقته الاقتصادية الخالصة.
ووفق مصدر مطلع فإن المعلومات تتضارب داخلياً وخارجياً. ففي الداخل، يبدو الوفد المفاوض واثقاً من قدرته على تعطيل نشاط إسرائيل في التنقيب البحري. فالشركات المنقبة ستكون أمام مشكلة قانونية تضعف حماستها للعمل، وهذا يحمل إسرائيل على المسارعة إلى المطالبة بإحياء المفاوضات.
في المقابل، هناك وجهة نظر أخرى تعارض هذا التوجه، وتعتبر أن واشنطن وتل أبيب ستصعدان ضد لبنان. وسيكون هناك إصرار على استمرار عمليات التنقيب في إسرائيل، وممارسة ضغوط هائلة على لبنان وعلى الشركات التي يفترض أن تنقب في الجهة اللبنانية.
هيل في بيروت.. استشراف وتقرير
الموقف الأمريكي من مرسوم التعديل والعديد من الملفات الأخرى يحتاج لبضعة أيام كي يوضح. وربما قد يتبين منه بعض الملامح أثناء زيارة وكيل وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد هيل، الذي يصل لبنان مساء اليوم، فيما وُصفت زيارته بأنّها استطلاعية ووداعية، فهو يستعد إلى ترك منصبه نهاية الشهر الجاري لخليفته السيدة فيكتوريا نولاند، من ضمن التجديد في الإدارة الأمريكية الجديدة، ولا بدّ من أن يقول كلمته الأخيرة في بعض ملفات المنطقة.
ولذلك لا تنفي المصادر الدبلوماسية قلقها من أن تلقى مهمته ما لقيته المهمات السابقة الآنفة الذكر. فهو ووفق ما توافر من معلومات سيتجاهل، بالإضافة إلى أي لقاء مع مسؤولين من حزب الله، اللقاء مع الوزير جبران باسيل، فيما تشير مصادر متابعة إلى أن رسائل أمريكية تحذيرية قد وصلت إلى لبنان قبل فترة، لتجنب تعديل المرسوم، لأنه سيؤدي إلى نسف المفاوضات نهائياً.
لكن لبنان حصّن نفسه عملياً بالمرسوم قبل زيارة هيل، وأظهر توافقاً عليه. ووحدة الموقف اللبناني تخالف واقع الانقسام السابق بين مؤيد لإقرار المرسوم ومعارض لإقراره، وكان ذلك قابلاً للاستثمار من الأمريكيين والإسرائيليين. والأهم هو إيداع المرسوم لدى الأمم المتحدة، لتثبيت حدود لبنان وحقه بهذه المساحة من جانب واحد، الأمر الذي قد يدفع إسرائيل إلى إجراءات مماثلة وفق وزير الطاقة الإسرائيلي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.