صدر للمفكر المغربي عبدالله العروي قديماً كتاب يحمل عنوان "مفهوم الحرية"، والذي يمكن تصنيفه في مصاف المؤلفات الفكرية والنظرية التي عُنيت بمقاربة مفهوم الحرية وصفاً ونقداً، حيث تناول العروي في البداية تيمة الحرية كشعار، ليعرض بعدها للبعد النظري والتأصيلي للمفهوم، قبل أن يمر إلى وصف عملي للمفهوم وبخاصة في راهننا العربي.
طوبى الحرية في الدولة السلطانية التقليدية
صدوراً من خلفيته التاريخية العميقة، ينتقد العروي الطروحات الاستشراقية المختزلة والتبسيطية التي روج لها طيف من المستعربين الذين سلموا بقصور التجربة العربية التاريخية عن الوعي بالحرية والدعوة إليها، حيث اختط مسلكاً مغايراً ليدحض به المسبقات الاستشراقية، إذ تجاوز العروي ما تضن به المراجع الفقهية واللسنية التقليدية من إحالات إلى الحرية بمدلولها الليبرالي، متوسلاً بالرموز التاريخية التي تنطوي على كثافة مشهودة في الشعور بقيمة الحرية على الرغم من ضعف استيعابها النظري.
ومن بين هذه الرموز التي يحيل إليها المؤلف "البداوة والعشيرة" اللتان شكلتا حصناً للفرد في مواجهة عسف الدولة السلطانية التقليدية، إضافة إلى "التصوف" الذي لا يعني سوى الخلاص من القيود الموضوعية ونشدان الحرية الروحية والوجدانية.
الحرية كشعار
شكل ما يعرف بـ"عهد التنظيمات" متغيراً نوعياً في التعاطي مع موضوع الحرية، حيث أدى الخطر الأجنبي الداهم على الدول العربية المنضوية تحت العباءة العثمانية إلى توسيع نفوذ الدولة السلطانية على حساب الجماعات العضوية التي كانت تحمي الفرد من بطشها، وهو ما سيتولد عنه نشوء الشخصية الفردية العربية المتحررة من إسار العادات التقليدية، حيث سيعرف مطلب الحرية تداولاً غير مسبوق في المجال الخطابي والتعبيري.
وكنتيجة لهذا التطور التاريخي، أصبح مطلب الحرية الليبرالية الهاجس الرئيس للأنتلجنسيا العربية في الفترة التي سميت بـ"عصر اليقظة"، حيث كانت الظرفية التاريخية المتسمة بعدم اختبار أي تجربة ليبرالية فعلية تحتم على النخبة موضوع الحرية كشعار معبأ دون الخوض في متاهاتها الفكرية والفلسفية. لذا، فقد كانت توجهات مفكري عصر اليقظة العربية أقرب إلى ليبراليي القرن الـ18 كروسو ولوك وسواهما الذين قاربوا الحرية كحق إنساني طبيعي دون أن يعبأوا بالتأصيل النظري والفكري للمفهوم.
الحرية كمفهوم نظري وفلسفي
أفضت المفارقات التي تمخضت عن التجربة الليبرالية المحدودة التي شهدتها بعض الأقطار العربية في سياق أفول الدولة العثمانية إلى تسييد مقاربات نقدية لدى طيف من المفكرين العرب إزاء مفهوم الحرية الليبرالي، مما رسخ الوعي بضرورة العمل على تفكيكه وتأصيله نظريا بالارتكاز إلى مدارس فكرية مستوردة وأهمها الماركسية، الهيغيلية، الوجودية، سيما في ظل رسوخ قناعة عند بعض رموز الفكر العربي بارتباط الفكرة الليبرالية بمخرجات الاستعمار الغربي الذي تحررت منه تلك الدول حديثاً.
وقد عرض العروي بالشرح والتفصيل لتلك التيارات الفكرية المستوردة مفككاً منطلقاتها النظرية الأساسية، ليستقر على خلاصة أساسية مفادها أن أغلب المدارس الفكرية التي عنيت بتأصيل مفهوم الحرية متجاوزة بذلك ما تصفه بمحدودية أفق الفكر الليبرالي قد انتهت إلى نفي قيمة الحرية على صعيد الممارسة، وهو ما يضفي الشرعية على موقف ليبراليي عصر الأنوار الذي زكاه العروي ومؤداه أنه كلما تم التمادي في تأصيل الحرية فكرياً، تقلص نطاقها على صعيد الممارسة: "إن استبدال النظرية بالوضعانية ليس عجزاً، بل هو ضمان للحرية ذاتها".
لكن العروي يختلف عن موقف الليبرالية التقليدية ببعدها الأنواري حين يشدد على أن تحقق الحرية الليبرالية في الممارسة رهين برفع العوائق الموضوعية التي تقف حائلاً أمام تفتق الشخصية الفردية المستقلة وأهمها تسلطية واستبدادية الدولة ومحاصرتها للعلوم الإنسانية والاجتماعية، وهو ما يضعه على طرف نقيض مع بديهيات الفكر الليبرالي التأسيسي الذي يعتبر الحرية الأصل والمنطلق متغافلاً بذلك عن الشروط الموضوعية والتاريخية: "إن الوعي بالوجدان الفردي نتيجة من نتائج التطور التاريخي، وليس في أصل التطور كما تتخيل ذلك الفلسفة التأملية".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.