وسط زحام الصور والقصص المنثورة فوق كل حبة رمل في إفريقيا بشكلٍ عام، وفي سيراليون بشكلٍ خاص، جلست أنا والزميل الصحفي صلاح حسن في مطعمنا اللبناني المفضل على ساحل الأطلسي في العاصمة فري تاون.
جلسنا نخطط لتنفيذ فكرة تقريرنا لليوم التالي، والتي كانت حاضرة في مخيلتنا منذ أن كنا في الدوحة نحضر لتلك التغطية مطلع عام ٢٠١٣، يومها تحدثنا عن فيلم Blood Diamond، كانت الفكرة عن الألماس في سيراليون.
كان علينا السفر، باكراً صباح اليوم التالي، إلى قرية جوماندو قرب مدينة بو، ثاني أكبر مدينة بعد العاصمة فري تاون، وتقع في الجنوب الشرقي منها.
شددنا الرحال بالفعل وبرفقة الصحفي المحلي جاما، والسائق، وباكراً توجهنا في رحلتنا قاصدين تلك القرية، وبشكل أدق قاصدين شاطئ نهر يعتقد أنه غني بالألماس.
حال وصولنا كان المشهد فوضوياً، أشبه بموقع بناء طاش صواب العاملين فيه.. صراخ وحركة عمال من الجنسين تتراوح أعمارهم بين خمس سنوات وسبعين سنة.. مواقع بحث متجاورة، معدات بدائية، وبعضها لا علاقة له بالتنقيب (نظرياً)، ونهرٌ لون الماء فيه أقرب للبني من فرط التلوث.
ورغم تحذير صلاح من أن مياه النهر تحمل الملاريا والجرب النهري، خلعتُ بعض ثيابي وقمت بالسباحة نحو قاربٍ وسط النهر، مصطحباً كاميرا صغيرة حديثة يومها تدعى غو برو، لأصور الغواص الباحث عن الألماس في قاع النهر الملوث، بقرارٍ شخصي طبعاً.
سبحت نحو القارب لأكتشف أن الإخوة في ذلك القارب الإفريقي التقليدي حملوا معهم مولداً صغيراً للكهرباء، ومضخة غاز تستخدم عادة في أجهزة التكييف، يخرج من أحد أطرافها خرطوم مطاطي رفيع وطويل، يضعه الغواص في فمه أثناء الغوص ليساعده على التنفس، بينما أعتمد أنا وهو -أي الغطاس- على النظر المباشر في الماء دون نظارات غوص، والسبب أنني لم أكن مستعداً للغوص، أما هو أو هم، فذلك جل ما يملكون من معدات، لعدم قدرتهم على تحمل نفقات أجهزة غوص احترافية.
على شاطئ النهر، وبعد تصوير الغواص، كانت المجاميع التي تبحث عن الحجر "الكريم" لا تزال منهمكة في البحث في رمال النهر. كانوا يبحثون بحركة ميكانيكية، تعلو وجوههم الشاحبة، بفعل سوء التغذية واليأس، أحزان تسللت بين أخاديد تجاعيد كبار السن، وحول العيون شبه المغمضة، تحاشياً لأشعة الشمس لدى الشباب والأطفال.
كان على المقاولين المحليين الاستمرار بإصدار الأوامر والوعود بالثراء، التي يتفوهون بها مصحوبة بابتسامة المتهكم لذاته، ليقينهم أن الإمساك بالسراب الراقص فوق الرمال في الأفق أكثر واقعية من وعودهم تلك!
فمهما كان عِظمُ الحظ الذي قد يصادفه أحد أولئك المنقبين بالعثور على ألماسة كبيرة، فإن العائد من ذلك لن يتعدى رقماً تافهاً يدفع للمحظوظ منهم، بينما تكون حصة الحوت في الربح للشركة المستثمرة؛ إذ تمتلك شركات بريطانية حق التنقيب في قرابة ٧٠٠ كيلومتر مربع من سيراليون.
تمنح تلك الشركات مقاولي الأنفار فرصة جلب عمالة محلية -وقد يكون بعضهم عبارة عن أسرة بأكملها- للعمل في الأماكن التي يُعتقدُ أن الألماس موجودٌ فيها، دون تزويدهم بأية معدات أو آليات حديثة. مع أن الحديث عن المعدات يبدو تافهاً أمام ظروف عمل وحياة البشر ، ممن اصطحبوا الأطفال للعمل وكسب قوت اليوم كما الطفلة التي تبدو في الصورة.
بعد ساعة أو يزيد من التصوير لمشاهد نساء بعمر والدتي وهن يحركن الرمال في قدور وصحون معدنية مع بعض الماء بحثاً عن الصُّدْفة، غادرنا لنسلم على زعيم القرية كتقليد ونوع من الاستئذان الذي جاء تقريباً بعد الانتهاء من العمل.
كان جالساً على كرسيه بصمت، ذلك الرجل المسن، الزعيم، شككت أنه إما غاضب جداً أو نائم أصلاً من فرط الصمت ونحن جلوس بانتظار أن ينطق، لم ينظر في وجوهنا قط، تكلم بلغة محلية معاتباً على تأخرنا بالمرور به والاستئذان منه، ثم قال مرحباً بكم، قبل أن ننصرف هرباً من التعب، لنعود للعاصمة.
قبلها حفظت صورته، وتعابيره، وسحنته في ذاكرتي، لأتساءل بعد أعوام -مع علمي بالجواب- ترى بأي عين يرانا نحن الأغراب الذين نشبه، ولو بالشكل، الأغراب الذين احتكروا ثروات ذلك البلد؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.