إضافة إلى تميز المفكر الإسلامي عبدالكريم بكار وتعمقه في تخصصه الأساسي في مجالي الشريعة واللغة العربية، بأنه هاضم متميز لثقافة العالم وحركاته الفكرية، خاصة ما وصل إلينا عبر حركة الترجمة. وهو فريد بين نظرائه من علماء الشريعة في ذلك، وقد انعكس ذلك إيجابياً على إنتاجه الفكري الثري. ورغم ذلك فإنك لا تجد في مراجع الكتاب محل العرض والنقاش هنا "أساسيات في نظام الحكم في الإسلام" إلا المراجع الإسلامية، ولعله شاء أن يوصل لقارئه رسالة مؤداها أنه رغم جرأة أفكاره وأطروحاته ملتزم بالمصادر الإسلامية.
يذكر بكار في مقدمة "أساسيات في نظام الحكم في الإسلام" أن التاريخ الإسلامي حافل بالثورات على الحكومات وانتفاضات التمرد على النظم السياسية السائدة. فما تكاد الحكومة تتمكن من إخماد ثورة أو حركة احتجاجية حتى تنفجر أخرى. وهذا يعود إلى الكثير من الأسباب في نظره، من أهمها: (1) عدم الاهتداء إلى نموذج في إدارة الشأن العام يؤمن استقرار البلد دون جور على حقوق الناس وكرامتهم. (2) كما أن الأرض التي يبسط الحاكم المسلم سلطانه عليها كثيراً ما كانت تتسع بسبب حركة الفتوحات الدائبة، ما جعل تراكم الخبرة السياسية والإدارية في التعامل مع الجماهير غاية في الصعوبة بسبب تغير المعطيات على نحو مستمر. ويصل من ثم إلى القول أنه يحاول تبسيط المفاهيم السياسية المعقدة وأن يزيل اللبس والغموض عنها، بغية تخفيف التوتر الاجتماعي الذي ولّده الجهل بطبيعة الدولة ووظائفها. وهو يقرر أن تعليق تطبيق الشريعة بحكومة إسلامية أمر غير سديد؛ لأنه في الحقيقة يؤدي إلى اختزال الشريعة إلى عُشر ما هي عليه، كما أنه يشكل نوعاً من الفرار من المسؤولية الأخلاقية والشرعية.
ويقول بكار إن مرجعية العقيدة والعرف المجتمعي أقوى بكثير من مرجعية الدستور، فتأثير الدستور في الحياة الشخصية للفرد شبه معدوم.
أما العبادات جميعها فمرجعيتها العقيدة، والمعاملات وأنماط العيش والتقاليد التي تسود المجتمع إنما مرجعيتها العرف الذي قد يكون متأثراً بطريقة التدين السائدة. المعركة الأساسية والبعيدة المدى ليست معركة الدستور، وإنما معركة تصحيح العقيدة وتربية النشء على آداب الإسلام، وترشيد الأعراف الاجتماعية السائدة، وصياغة الطموحات والتوجهات المتشبعة بالإيمان والمنضبطة على القيم الإسلامية الرفيعة.
ومن كمال الدين الإسلامي صمته إزاء بعض الأمور المتغيرة، فلا يسن لها أي تشريع، وذلك من أجل إتاحة الفرصة الكاملة لعقولنا كي تجتهد وتبدع وتبتكر. وحين تكون النصوص الدينية الفاصلة قليلة في قضية أو مجال ما، وتكون الاجتهادات كثيرة، فإن هذا يعني أننا سنحصل على كثير من الآراء الظنية، وسنشعر بأننا نقف على أرض هشة، وهذا يتطلب أموراً، منها بحث الخلاف بروح التسامح، ومنها أن نعبر عن آرائنا بصيغة تفيد الترجيح والاجتهاد بعيداً عن القطع والجزم.
يقول الجويني في غياث الأمم: "إن مسائل الحكم و النظم السياسية وما يتعلق بها من فقه السياسة الشرعية هي أمور مبنية على الاجتهاد بسبب قلة النصوص، وهذا يستوجب صياغة الرأي فيها على نحو يوحي بذلك".
سياسة فن الممكن
مرّت الأمة الإسلامية بمرحلة طويلة من الانحطاط الحضاري استمرت قروناً، ومن المألوف في مثل هذه الحالة تقديس أقوال الآباء والأجداد وتحويل الكثير من الاجتهادات التى تمت في إطار الوحي -على نحو عام- إلى شيء له مصدرية الوحي وعصمته، ما أدى إلى أن أصبحت السياسة الشرعية المدماك الأضعف في صرح الفقه الشامخ. أحد أسباب ذلك أن الاجتهاد في قضايا السياسة الشرعية كان يصطدم برغبات وأوضاع السلطة المهيمنة على الفضاء العام. إن خلود الشريعة اقتضى أن يكون في إدارة الشأن الإنساني العام كثير من الفراغات التي يتوجب على أهل كل زمان أن يملؤها بما يتناسب مع أحوال زمانهم ومتطلباته.
في القرون الأولى كان التنظير الفقهي قائماً على أساس وجود دولة فتوحات ليس لها حدود ثابتة، حيث يكون هاجس التمزق إلى دويلات مسيطراً على مفاصل النظام. ولهذا كان يتم الجنوح إلى تركيز السلطة في شخص الخليفة، أما اليوم فإن توزيع السلطات هو ما تفضله نظم الدول القطرية بغية الحد من تغول الدولة وتمددها. وهذا باعث على تجديد الفقه السياسي. فالسياسة هي فن الممكن وهي فن الموازنة بين المصالح والمفاسد، فن تكثير الأصدقاء وتقليل الأعداء. وقد راكم العالم تجارب ثرية في السياسة ولا بد لنا من الاستفادة منها.
مثلاً كان فقهاؤنا القدامى يركزون على صفات ومؤهلات من يصلح للخلافة، وقد تبين أن فائدة هذا التركيز كانت محدودة لأن معظم تلك الصفات كان نسبياً وغامضاً. على حين أن عالم اليوم يقوم بتجويد النظام السياسي الذي تخضع له الحكومة والشعب معاً، وهذا النظام هو الذي يحدد للحكومة وللشعب الحقوق والواجبات ويتيح التخلص السلمي من الحكومة السيئة أو العاجزة. من السهل دائماً أن ننقد هذا النظام السياسي أو ذاك، لكن من العسير دائماً أن ننتج نظاماً يبرأ من العيوب، ولهذا فلا بد من القبول بنُظم منقوصة، لكنها تحتوي على ميكانيكيات فاعلة تضمن الاجتهاد في إصلاحها وترشيدها.
ماذا عن الخلافة؟
يكثر الحديث عن الحاجة للخلافة كما كان في السابق، وقد كانت تجربة الخلافة الراشدة تجربة عظيمة مباركة، لكنها لم تكن تجربة مغلقة ونهائية، طريقة الحكم التي مارسها الخلفاء الراشدون لم تكن شيئاً بالضرورة يصلح لكل مكان وزمان. وإنما كانت عبارة عن اجتهادات رجال كانوا خير قادة الأمة وعلمائها. أما عن قول الإمام مالك: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، فإنه ينطبق على المبادئ والأسس لا على الأساليب والوسائل، إذ تستمد الأساليب والوسائل أهميتها من قدرتها على تحقيق المقاصد المرتجاة منها.
إن أعظم خلاف بين الأمة نشب على الإمامة، ومعظم الفتن والحروب التي ثارت بين المسلمين إنما كانت بسبب الحكم والولاية. وجوهر تلك الخلافات إنما كانت بسبب انتهاك بعض المبادئ والقيم، أو غموض بعض المفاهيم والمصطلحات، أو ترتيب بعض الأولويات ولم يكن بسبب الاختلاف على وسيلة أو أسلوب أو إجراء. وذلك يعني أن جيل الصحابة والتابعين كانوا يدركون جيداً أن الأساليب والوسائل تظل موضع اجتهاد وتعاذر. أما المقاصد والمبادئ فلم تكن تحتمل التنازل والمساومة، من هنا فإن توضيح المفاهيم والمصطلحات يقي من الكثير من أسباب النزاع.
فصل الدين عن السياسة
إن الفصل المطلق بين الدين والسياسة هو فصل وهمي، ولكن هذا الفهم يجب ألا يسمح باستثمار المكانة الدينية لأي مواطن في المجالات السياسية أو المالية فهذا يفسده ويفسد النظام السياسي أيضاً. وإذ تقوم الدعوة والقضاء والفتيا على الإخلاص والتقوى والورع أولاً وعلى المهارة والكفاءة ثانياً. فإن أمور الحكم والسياسة والإدارة تقوم على القدرة على تحقيق مصالح الناس وتدبير أمورهم وإقامة موازين العدل بينهم أولاً ويكون الصلاح والورع ثانياً.
إن مساحة الاجتهاد في الأمور الشرعية أضيق بكثير منها في المجال السياسي، تجد أن النصوص في مجال العقائد والعبادات كثيرة ما يحد من مجال الاختلاف بين الفقهاء فيها. لكن الشأن السياسي يختلف، الآراء في السياسة تنتج عن التحليل وتقليب وجهات النظر، واختلاف زوايا الرؤية، ومدى اطلاع السياسي على المعطيات والحيثيات المتعلقة بموضوع البحث.
وأنك حين ترى ما وصلت إليه شعوب في ممارستها المتقدمة للديمقراطية، لتتعجب من غياب الشورى عن حياة المسلمين، مارس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مساحات واسعة من الشورى وكذلك الراشدون، لكن هذه الممارسة انتهت في حقبة ما بعد الراشدين بحيث لم تعد قوية التواجد في وعي المسلمين، بل وما زال البعض يختلف عن كونها معلمة أو ملزمة، والسبب الرئيس كما يذكر المؤلف هو عدم مأسسة الممارسة الشورية كما هي حال الديمقراطية التي يمارسها الشعب من خلال المؤسسات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.