في أقل من يومين، تم نقل حدثين بارزين يرتبطان معاً باستقرار دولتين، هما الأردن وتركيا، وذلك من غير مقدمات ممهدة. الأول، يهم حديثاً عن تحركات داخل البيت الأردني الداخلي بإيعاز من مخططات دولية تستهدف أمن واستقرار الأردن، والثاني، رسالة من قادة عسكريين أتراك متقاعدين، تهدد المؤسسات في حالة ما إذا أقدمت السلطات على مراجعة اتفاقية مونترو.
المعطيات الأولى الصادرة من جهات التحقيق في الأردن تشير إلى وجود مخططات خارجية تستهدف الأمن والاستقرار الداخلي للأردن، وتشير إلى وجود اتصالات مع أفراد في الأسرة الملكية، في حين سارع المسؤولون الأتراك إلى إدانة بيان متقاعدي الجيش معتبرين أنه يمس بصلاحية المؤسسات، ويحاول استعادة تاريخ الانقلابات في تركيا، ولذلك لم يتأخر إحالة هؤلاء إلى التحقيق.
حتى الآن ليس هناك ما يشير إلى أن التزامن في الحدثين هو شيء عفوي من غير أجندة مرتبة، فالأردن وتركيا وإن كانا يحملان أجندات مختلفة في المنطقة، وتتباين مصالحهما الإقليمية، فإن ما يجمعها هو أن رؤيتهما الاستراتيجية تتعارض جزئياً أو مفصلياً مع السياسة الأمريكية الراهنة في المنطقة، وتقف على خط التناقض من بعض السياسات الخليجية، فالأردن يعارض بشدة صفقة القرن، ويرى أن أمنه الإقليمي ومصالحه الاستراتيجية ستكون عرضة للتهديد لو اتجه إلى قبول اتفاقات أبراهام، فيما يقف على خط الحياد من الأجندات الإقليمية الاستقطابية في المنطقة، سواء تعلق الأمر بملف سوريا أو ملف العراق أو ملف التحول الديمقراطي والعلاقة بالإسلاميين، أما تركيا، فهي على الموقف نفسه من صفقة القرن، وهي تتمدد إقليمياً بشكل ذكي، وتسعى لاستثمار الثغرات التي يسمح بها تناقض الوضع الدولي لتقوية نفوذها الإقليمي في أكثر من منطقة، وفوق هذا وذاك، فهي على خط النقيض من بعض السياسات العربية الخليجية في المنطقة (مصر، السعودية، والإمارات) لا سيما ما يتعلق بسياسات التحول الديمقراطي والعلاقة مع الإسلاميين وأيضا التطبيع مع إسرائيل.
ردود الفعل الصادرة حتى الآن، تشير إلى أن الموقف السعودي كان السباق إلى التعبير عن وقوف المملكة إلى جانب الأردن ودعم الاستقرار به، فيما تأخر موقف دولة الإمارات، فلم يصدر إلا بعد تقاطر الدعم الدولي الداعم للملك ولاستقرار الأردن.
المثير في ردود الفعل العربية والدولية أن لا أحد تردد في دعم الإجراءات التي يتخذها الملك عبدالله الثاني لحفظ أمن واستقرار الأردن، بما في ذلك واشنطن ولندن، ودول الخليج ومصر وإيران وتركيا، فيما اعتبرت إسرائيل أن الأمر يندرج ضمن الشؤون الداخلية للأردن.
أما تركيا، فقد غابت عنها ردود الفعل الدولية، ربما لأن الحدث هو أقرب إلى الشأن الداخلي الذي لا يمكن قياس أثره على الأمن والاستقرار مقارنة بالحدث الكبير الذي عرفه الأردن.
في الأردن، ثمة حديث عن روايتين اثنتين، الأولى تتحدث عن مؤامرة أجنبية تريد استثمار خلافات داخل الأسرة الملكية، ورواية أخرى مقابلة، تنكر وجود أي مؤامرة خارجية، وترى أن الأمر ربما هو أقرب إلى افتعال داخلي قصد به ترتيب أوضاع داخل الأسرة الملكية، بما يزيل عن الطريق تحديات محتملة على الأمن والاستقرار الأردني.
أما في تركيا، فالأمر يبدو أكثر وضوحاً، لأن القضية ترتبط بجس نبض موقف تركي مفترض من اتفاقية دولية (مونترو) تتعلق بالملاحة الدولية، سيكون لها تداعيات كبيرة على المصالح الاستراتيجية الدولية، في رسالة أشبه ما تكون بتهديد دولي تم تصريفه عبر بيان قادة جيش متقاعدين، ولذلك تعاملت تركيا مع الرسالة بذكاء، كونها اتجهت إلى سياسة التحقيق بحجة أن الأمر يرتبط بتحرك عسكري تهديدي يستهدف صلاحية المؤسسات في اتخاذ قراراتها ضمن الشرعية الدستورية والقانونية، ولم تبد أي موقف واضح بشأن إمكانية مراجعة الاتفاقية معتبرة أن الأمر يدخل ضمن صلاحية المؤسسات المعنية بذلك.
التزامن بين الحدثين يصعب معه تصور الرواية التي تقرأهما في سياق الاعتبارات الداخلية، وما يعتمل فيها من ديناميات، فتركيا ما فتئت تتعرض لمخططات تستهدف أمنها واستقرارها المالي والاقتصادي والسياسي، وثمة مؤشرات ظاهرة على قلق أمريكي وأوربي وإسرائيلي من توسع نفوذها في المنطقة، بل وكسبها لمعارك استراتيجية (شرق المتوسط، ليبيا، أرمينيا…) وحديث إسرائيلي عن تخطيط تركي لعزل تل أبيب في المنطقة، في حين، لم يخف الأردن غداة الحديث عن صفقة القرن عن وجود مخططات تستهدف أمنه واستقراره، بل لم تتوقف دينامية الملك عبدالله الثاني لكسب دعم عربي للتخفف من الضغوط الممارسة عليه للقبول بصفقة القرن التي تقدر الرؤية الأردنية أنها مضرة بمصالحه الحيوية وباستقراره وأمنه ووحدة أراضيه.
من الصعب اليوم الحديث عن مصدر واحد لهذا التهديد، وما إذا كان أمريكياً أو إسرائيلياً أو حتى خليجياً، كما أن اشتراك الأردن وتركيا في زمن الاستهداف وموضوعه (استهداف الأمن والاستقرار) لا يعني بالضرورة وحدة الرسالة، فواضح من الحدثين، أن الأمر يتعلق بقلق إسرائيلي أمريكي خليجي (إماراتي على وجه التحديد) من موقف الأردن وممانعته لاتفاقيات أبراهام وموقفه الحيادي من السياسات الإقليمية، كما يتعلق بقلق إسرائيلي أمريكي أوروبي خليجي (إماراتي) من سياسات تركيا في المنطقة، وأن المقصود بالنسبة للأردن توجيه "لسعة" للتنبيه إلى مخاطر الاستمرار في نفس السياسة، وأن كلفة استقرار الأردن أن يغير مفرداته ويلين مواقفه من اتفاقيات أبراهام، كما أن المقصود بالنسبة إلى تركيا هو جس نبضها في موضوع اتفاقية مونترو، وربط ذلك بتهديد يرجع تركيا إلى عهد الانقلابات العسكرية بدعم أجنبي مكشوف.
الأردن، فهم الرسالة، وأدرك أن الجواب عنها يكون عبر رص الجبهة الداخلية، والجواب عن هذا التحدي يكون باستعمال آليات الوساطة من داخل الأسرة الملكية، حتى يتم إخراج الخلافات داخل هذه الأسرة من دائرة الرهانات الأجنبية، بينما جاء الجواب التركي قضائياً ومؤسساتياً، أي التفت إلى البعد الشكلي في الموضوع دون الجواب السياسي المرتبط بمستقبل اتفاقية مونترو، أي تم النظر إلى رسالة قادة الجيش المتعاقدين من زاوية الشكلية الدستورية والمؤسساتية، دون الجواب عن مضمونها، حتى تبقي أوراق المناورة مفتوحة في هذا الشأن، ومرتبطة بالمؤسسات المعنية في الزمن المخصوص لذلك.
في المحصلة، كسب كل من تركيا والأردن بالحدثين، فالأولى كسبت من خلال الإمساك بمستند قانوني لمتابعة قادة جيش يحتمل أن يكون لهم دور في المستقبل، يهدد الاستقرار المؤسساتي بالبلاد، في حين، كسب الأردن، تحييد الخلافات داخل الأسرة الملكية عن أي رهانات أجنبية تريد أن توظفها لممارسة الضغط والابتزاز لسلب الأردن قراره السيادي.
البعض يرى الجانب الآخر من العملة، أي خسارة البلدين، الأردن الذي أظهر للخارج الاهتزاز والهشاشة داخل مكونات الأسرة الملكية، وتركيا، التي أظهرت أنها لا تملك إلا الجواب الأمني في الجواب عن هذه التحديات، لكن مهما يكن حجم الإضرار بالصورة في الأردن وتركيا، فإن آليات الوساطة التي لجأت إليها الأردن، والاعتماد على الحجة الدستورية والمؤسساتية في تركيا، يخففان من الأمر، ويجعلان الربح المكسوب أكثر من الخسارة المفترضة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.