الأجواء الإيجابية التي أُشيعت قبيل الدخول في عطلة الأعياد تكاد تكون بحسب بعض العارفين بأروقة الصالونات السياسية "مورفيناً سياسياً"، مقصود نثره في الجو اللبناني لتمرير الوقت فيما المفتاح بين فيينا والدوحة، اللذين يستقبلان مفاوضات أمريكية- إيرانية، فيما تبقى الحكومة ضائعة في عقدة التناتش السياسي على الحصص والوزارات والمعايير المتضادة بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري.
السعوديون والحريري والاستثمار الخاسر
وعليه فإن الحكومة باتت في مهب الريح، فبالنسبة للحريري أوصلت السعودية رسالتها عبر وزير خارجيتها بالقول إن المملكة تدعم برامج ولا تدعم أشخاصاً، مسهباً بالقول: "لا نقف خلف أفراد في لبنان، وسنكون مستعدين للوقوف خلف لبنان ما دامت الطبقة السياسية هناك تتخذ خطوات حقيقية لمعالجة المشاكل التي يواجهها البلد"، ويندرج كلام الوزير السعودي في إطار أن كل ما حكي عن أجواء إيجابية في اتصال "ماكرون-بن سلمان" بات حبراً على ورق، ما دامت المملكة لا تعير اهتماماً للحريري، ولا سفيرها العائد منذ شهر ونصف الشهر يدق أبواب بيت الوسط للسلام والكلام.
وعليه فإن ما قاله وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في حديثه الإعلامي، أسمعه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لرئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي خلال زيارته المملكة، حيث قال لضيفه العراقي: لقد وقفت السعودية إلى جانب لبنان منذ اتفاق الطائف حتى الآن وصرفت عشرات المليارات، وكانت النتيجة أن رفيق الحريري قد تم اغتياله، وهذه هي المملكة عرضة للصواريخ الحوثية. لسنا مستعدين لتكرار الاستثمار نفسه، أقله ليتخذ سعد الحريري مواقف مثل العراق عندما تستهدف مصالح المملكة العربية السعودية.
من هذا المربع الخليجي والسعودي يريد ميشال عون دفع الحريري إلى الاستقالة والاعتذار، ويريد جبران باسيل من هذا البرود السعودي والتجاهل للحريري أن يجعل سعد الحريري مضطراً لترك الحياة السياسية إلى غير رجعة.
باسيل الذي يستعد لزيارة موسكو قبل نهاية أبريل/نيسان الحالي، سمع من المسؤولين في موسكو أن الحريري حاول الاستعانة بهم كواسطة خير بينه وبين السعوديين، لكن الروس لم يردوا بجواب إلى الحريري، فهم غير جاهزين للعب هذا الدور، ما دام الفرنسيون فشلوا فيه.
باسيل يدق أبواب الإليزيه.. وسطاء وشروط
وبعيداً عن العقدة السعودية مع الحريري، يقف جبران باسيل يتحسس حضوره ودوره في ظل الحديث الدائر عن عقوبات أوروبية تقودها باريس وبرلين، تطاله ومقربين منه بتهمة تعطيل المساعي الرامية لتشكيل الحكومة والسير لوضع لبنان على سكة إصلاحات في البنية المؤسساتية المتآكلة.
وإلى جانب التلويح بالعصا من خلال الكلام عن عقوبات أوروبية يجري التحضير لها على الذين يعرقلون ولادة الحكومة، وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، جاء ليقنع الإدارة الفرنسية بأنّ التلويح بالجزرة قد يكون أكثر نفعاً، والمقصود هنا بدعوة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل إلى باريس للقاء لودريان وباتريك دوريل، وإذا أثمر اللقاء يمكن أن يصل إلى مستوى لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
ويشترط الفرنسيون زيارة باسيل أن تكون مقرونة بتنازلات في ملف تشكيل الحكومة، وهم يودون أن تنتهي هذه المعضلة بولادة حكومة "مهمات" برئاسة الحريري، هدفها واضح وصريح، هو تنفيذ حزمة إصلاحات مالية ومؤسساتية ولا تخضع لأي تعطيل مستقبلي.
لا يخفي الفرنسيون اقتناعهم بطرح وليد جنبلاط القائم على تشكيل حكومة اختصاصيين من 24 وزيراً، لا ثلث معطلاً لأحد، وتضمن مشاركة الجميع، لكن هذه المبادرة التي تحظى بدعم رئيس مجلس النواب نبيه بري، وشبه موافقة من الحريري مازالت عالقة بين عون وباسيل، لذا فإن الفرنسيين باتوا في عنق الزجاجة.
ووفق مصادر فإن هذا الغضب الساطع الفرنسي نقله المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم إلى باسيل، مشدداً له على استياء الفرنسيين منه، باعتباره المعرقل الأول لتشكيل الحكومة، وأبلغه أن الإدارة في باريس تحضر لائحة بأسماء عدد من المسؤولين اللبنانيين، لفرض عقوبات أوروبية عليهم، وهو على رأس القائمة، وهذا الجو الذي نقله إبراهيم بعد تواصله مع مدير المخابرات الخارجية الفرنسي برنار ايمييه.
في موازاة ذلك ينشط السفير اللبناني في باريس رامي عدوان على الخط، يجري اتصالاته مع المسؤولين الفرنسيين، على رأسهم برنار ايمييه، وباتريك دوريل، وسمع منهم نفس الموقف تجاه رئيس التيار والصهر، باختصار جبران باسيل هو الذي يعرقل، وهو الذي يقف عقبة، ويريد إعادة تعويم نفسه.
هذا الكلام يردده المسؤولون الفرنسيون، ويبحثون عن صيغة لحلّ تلك العقبة. سابقاً اقترح المسؤول الفرنسي، باتريك دوريل، عقد لقاء بين رئيس التيار الوطني الحرّ ورئيس الحكومة المكلف.
يرفض الحريري، لأن ذلك سيؤدي إلى تعويم باسيل وإظهاره بأنه مشارك في صناعة الحكومة، وأنه صاحب القرار، بما يعيد إحياء معادلة سعد مقابل جبران. اليوم يستعيد الفرنسيون دورهم عبر تنشيط حركة اتصالاتهم، آخذين بعين الاعتبار عدم الذهاب لتعويم باسيل المعاقب أمريكياً، سياسياً، دون الحصول على مفتاح ولادة الحكومة منه.
لا يكتفي العدوان بلقاء الفرنسيين، فالرجل التقى نظيره السعودي، وسمع منه موقفاً مشابهاً لما يقوله المسؤولون في السعودية عن الحريري، وما تسببت به التسوية من إعطاء ذريعة لحزب الله في الإمساك بالبلد، ينقل عدوان ما يسمعه لباسيل: الفرنسيون ينتظرون مبادرة منك، والسعوديون يترقبون، لذا فإن عدوان كما اللواء إبراهيم يحبذ زيارة باسيل لباريس لشرح موقفه، وإن كان يود التنازل في الملف الحكومي، فليتنازل في الإليزيه وليس في بيروت، لكن يبقى الأساس في أن حزب الله يمارس صمتاً، يقال انتظاراً لما سيتوصل إليه مؤتمر فيينا بين واشنطن وطهران.
وإذا ما تمت الزيارة فإن أوساطاً سياسية تعتبر أنّ نجاح لقاء المسؤولين الفرنسيين مع جبران باسيل قد يفتح الباب أمام دعوة الرئيس ماكرون للحريري، وعقد لقاء المصالحة مع باسيل، خصوصاً أنّ الحكومة ستولد وفق مواصفات المبادرة الفرنسية. أما إذا اعتذر الحريري عن الحضور فعندها لا بدّ من خطوات أخرى.
وهنا تربط الأوساط الدعوة الموجهة للحريري لزيارة الفاتيكان خلال الساعات القادمة، أنها قد تشكل عامل ضغط تريده باريس في حال تشبث الحريري بموقفه حيال مصالحة باسيل في باريس، وخاصة أن الحريري بات يدرك أن عون وباسيل ومستشاري القصر يحرضون السعوديين عليه، لذا فإن الحريري قد يقبل وساطة الفاتيكان لطيّ صفحة الماضي مع باسيل.
شكري في بيروت.. تأكيد المؤكد
في الجانب الآخر يعود العرب لبيروت عبر القاهرة، وبعيداً عن أن باريس تنسق خطواتها مع الدوحة والرياض والقاهرة، تسعى القاهرة لممارسة دور عربي في لبنان، في ظل الغياب المستمر، قبيل وصوله لبيروت غداً الأربعاء، تؤكد مصادر أن الأخير سيحط في باريس ليلتقي المسؤولين الفرنسيين، ومنها سيعود لبيروت. الثوابت المصرية تتضمن: تشكيل حكومة تحفظ الاستقرار، تحدّ من الانهيار، تنجز الإصلاحات، ولا يكون فيها ثلث معطل لأي طرف، ويرضى عنها المجتمع الدولي وتلتزم بشروطه.
في هذا السياق يضع الصحفي منير الربيع زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري، إلى بيروت يوم الأربعاء، حيث سيلتقي المسؤولين بحثاً عن صيغة لتشكيل الحكومة. فمعروف أن مصر كانت متمسكة إلى أقصى الحدود بصيغة 18 وزيراً، وبلا ثلث معطّل. ولكن بما أن الحديث عن حكومة من 24 وزيراً أصبح مدار توافق، فإن شكري سيبحث مع المسؤولين سبل تحصين هذه التشكيلة الحكومية، من أي اختراقات سياسية أو اختلالات في موازينها، على أن تبقى اختصاصية، ولا تحتوي على الثلث المعطل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.