كنا تحدثنا في مقالات سابقة عن إشكالية الخطابات، أو الإدراكات السياسية عند القوميين واليساريين، لذا لا بد من تفحّص مماثل للإدراكات والخطابات السياسية عند التيارات الإسلامية، مع ملاحظة تنوعها واختلافاتها. وربما يفيد هنا تركيز البحث في موضعين أساسيين: أولهما، يتعلق بمسألة الشرعية، أو مصدر الحكم والتشريع. والثاني، يتعلق بالحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية وتداول السلطة.
في المسألة الأولى، فقد بدت انحيازات تيارات الإسلام السياسي تتراوح بين فكرة "الحاكمية لله"، وأن الشريعة هي مصدر التشريع، عند التيارات السلفية المتشدّدة، إلى اعتبار أحكام الإسلام بمثابة المصدر الرئيسي أو الأساس للتشريع بالنسبة للتيارات الأقل تشدّداً (حالة جماعة الإخوان المسلمين مثلاً)، وصولاً إلى القول بالدولة المدنية، مع النص على دين الدولة، عند بعض الجماعات المعتدلة أو المتنورة. مثلاً فقد نصّ الدستور في تونس على أنها دولة لغتها العربية ودينها الإسلام، وهذا ينطبق، أيضاً على وثيقة الأزهر (كما على حزب العدالة والتنمية في تركيا).
ولعل تلك الاختلافات تبيّن أن بعض أطراف التيارات الإسلامية قد تذهب، في ظل ظروف معينة، نحو حلول وسط مع التيارات والأطياف المدنية الأخرى في مجتمعاتها، وهو ما حصل في تونس وإلى حد ما في المغرب، وربما كان تحول حركة حماس نحو إنهاء سلطتها الأحادية في غزة، والمضي في المصالحة الوطنية يصبّ في هذا الاتجاه.
معلوم أن الشيخ عبدالفتاح مورو، وهو من قادة حركة النهضة في تونس، وصل إلى حد المطالبة بالانتهاء من شعار "الإخوان" الأثير: "الإسلام هو الحل"، الذي طالما أشهروه في سياق معارضتهم للأنظمة القائمة. وعنده فإن هذا الشعار "لا يقدم ولا يؤخّر، لأنه يحمّل الإسلام كدين فوق طاقته، ولأن المجتمعات تريد حلولا لمشاكلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية". وهو كلام، على جرأته وعقلانيته، ليس جديداً، إذ كان الإمام محمد عبده سبق أن طرحه، قبل مئة عام، بقوله: "ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير من الشر، وهي سلطة خوّلها الله لأدنى المسلمين يقرّع بها أنف أعلاهم، كما خوّلها لأعلاهم يتناول بها أدناهم".
أما فيما يخصّ المسألة الثانية، المتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، وتداول السلطة، فقد اختلفت تيارات الإسلاميين بشأنها، أيضاً، إذ اعتبرتها الجماعات السلفية والجهادية المتطرفة بمثابة خروج عن الدين، ونوعاً من التحلل والتغرّب والكفر. في حين أجازت التيارات الوسطية الأخذ بها في الحدود التي لا تتعارض مع الشرع، ولا تمسّ بخصوصيات وتقاليد المجتمعات الإسلامية، وفق تصوراتها. وثمة تيار رأى أنه يمكن التماشي مع هذا الأمر، باعتبار أن "لا إكراه في الدين"، وأن ذلك يدخل في إطار المسؤولية الفردية. وقد عبّر الشيخ راشد الغنوشي عن هكذا منحى، بقوله: "لا أحد يفقه تاريخ التشريع في الإسلام يسمح لنفسه بأن يغير أنماط الحياة من مأكل وملبس ومشرب عن طريق القسر والإكراه والتهديد، فالله خلق الناس أحراراً، ولم يعط لأحد سلطة في أن يقود الناس، حتى للجنة، بالسلاسل". ("المجلة "، لندن، 3/10/2011)
على ذلك يمكن الاستنتاج أننا إزاء حركات إسلامية متعددة، ذات توجهات مختلفة، وتفسير ذلك الافتقاد إلى نص ديني مرجعي يحسم في القضايا التي ذكرناها، إذ إن التجربة التاريخية للمجتمعات الإسلامية، في بناء الدولة، أو في اختيارات النظم السياسية، لم ترجّح شكلاً معيّنا للأخذ به. ذلك أن القول بالخلافة، مثلاً، فهو لا يفيد شيئاً، فهو عدا عن فواته التاريخي، لا يؤشّر إلى نموذج معين، ذلك أن الخلافة خرجت من نطاق "الشورى" في عهدها الأول، وتحولت إلى الوراثة، والغلبة، في على مدار ستة قرون.
وينجم عن ذلك نوع من مفارقة، فبينما تعتقد تيارات الإسلام السياسي أنها بتشددها تنصر الإسلام، إذا بها تطرح في التداول اسلامات متعددة، ومختلفة، وحتى متنازعة فيما بينها، إذ كل واحدة منها تدعي أنها تمثل صحيح الإسلام، وأنها "الفرقة الناجية"، وأنها الوكيل الحصري للمسلمين والمعبر عنهم.
وثمة مفارقة أخرى هنا، مفادها أن هذه التيارات، بدعوى الأسلمة، أو الاعتقاد بها، تحول الإسلام إلى نوع من أداة أو وسيلة، بدلاً من تنزيهه، وأنها عوض المحافظة على قدسيته، تزجّه في معمعان الصراعات الدنيوية، على المصالح والأهواء، بحيث تبدو إسلامات الأرض والبشر تنازع إسلام السماء. وبديهي أن النتيجة التي تنجم عن ذلك هي الإضرار بصورة الإسلام ذاتها، وتحول بعض الإسلاميين إلى عبء عليه، وفوق هذا وذاك، فإن ذلك يشجع على استغلال الإسلام، ووضعه في خدمة السلطات.
ومشكلة التيارات الإسلامية هنا أنها في تسرّعها واستسهالها الانخراط في السياسة، والحكم، لا تميّز في أغلب الأحوال في قناعاتها بين الدين والدنيا، أو بين شؤون العبادات وشؤون المعاملات، وأنها لا تعلي من شأن القيم الدينية السمحاء، المتعلقة بالحرية والعدالة والمساواة والكرامة، وتقلل من شأن مقتضيات إدارة أحوال البشر وتدبّر شؤونهم السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والتقنية، وغيرها.
ولعل ما يحصل اليوم في المشرق العربي، يمكن أن يمثل فرصة للتيارات الإسلامية العقلانية والمتنورة للتصالح مع الواقع والعصر والعالم، وذلك بالتميّز عن الجماعات المتطرفة، والتكفيرية، واللاعقلانية، وتحمل مسؤولية دحض تغطّيها بالإسلام للدفاع عن النظم الاستبدادية، على نحو ما يفعل حزب الله وعصائب الحق وكتائب أبوالفضل العباس، أو على نحو ما يفعل داعش وتفريعاتهما، والذين يحاولون وضع مجتمعاتنا أمام خيارين عقيمين وظلاميين وعنيفين. وبديهي أن ذلك يتطلب، أيضاً، تفكيك الأطروحات، التي ترتكز عليها هذه الجماعات، والمتعلقة بالحاكمية وأهل الحل والعقد، والخلافة أو الإمامة أو الولي الفقيه، ووضعها في ظرفها التاريخي، باعتبارها ليست من الإسلام، وذلك في سياق التأسيس لفكر سياسي إسلامي يميّز بين شؤون الدين وشؤون الدنيا، وبين الإسلام وتاريخ المسلمين، ويركز على مقاصد الدين المتعلقة بالحرية والمساواة والعدالة والكرامة، لاسيما بكونها جزءاً من منظومة القيم الإنسانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.