في حديثٍ عابرٍ جرى بيني وبين مالك أحد متاجر الألعاب بمدينة بيت لحم، اتفقنا على أن أكثر ما تغيّر في زماننا هذا هو القيم، وتقدير الأشياء المعنويّة والماديّة والإحساس بقيمتها، وعن أن القيمة الحقيقيّة في بساطة الحياة وجمالها، وقد تحدّث عن طفولته التي عاش جزءاً منها في كهفٍ بعد أن نُسِفَت منازل قريتهم غربيّ مدينة الخليل بالضفة الغربيّة بعد حرب عام 1967، ومع أنه قد أضحى على رأس إمبراطوريّةٍ اقتصاديّة -على الأقل بمقاييس مدينةٍ صغيرةٍ كبيت لحم- تضمّ عدّة مكتباتٍ ومحال للألعاب والإكسسوارات، فإن الحنين مازال يأخذه بعيداً إلى تلك الأيام حينما افترش الأرض والتحف النجوم، وعندما كان للسعادة طعمٌ حقيقيٌ غير مدنّسٍ بالثقافة الاستهلاكيّة الماديّة.
وكما تأقلمت قطاعاتٌ شتّى مع هذا الهبوط في القيم تأقلم تُجّار الألعاب واتجهوا لبيع ألعابٍ أقلّ سعراً وجودةً لقلّة تعلّق الأجيال الجديدة من الأطفال بألعابهم كالأجيال التي سبقتهم، فأصبحت مجرّد هياكل بلاستيكيّةٍ ملوّنةٍ ليس مطلوباً منها أن تصمد لأكثر من ساعات، وهي فترةٌ أكثر من كافيةٍ قياساً بالزمن الذي يحتاجه أطفال اليوم ليشعروا بالملل، ثم يعودون إلى التحديق بشاشات هواتفهم الذكيّة وأجهزتهم اللوحيّة، تاركين هذه الألعاب تلقى مصيرها المحتوم في سلّة المهملات.
ومثلما اندثرت -أو أوشكت- بعض المهن لعدم تأقلمها الكامل مع التغيّر الحاصل في طِباع الجمهور والتكنولوجيا المُنافسة، فإن الصحافة بمختلف أشكالها اليوم تواجه خطر الزوال، وتحديداً الصحافة الورقيّة، فيخبرني تاجر الألعاب عن مكتبته الأولى في أحد أسواق بيت لحم القديمة، وعن الصحف التي كان يبيعها والصحفيين الذين عرفهم، وعن عمولته اليوميّة من بيع الصحف والإعلانات، والتي بلغت ما قيمته الشرائيّة اليوم 350 دولاراً أمريكيّاً، وهو ما يعادل راتباً شهريّاً لعاملٍ أو موظّف في بداية التسعينات في فلسطين.
ومقارنة الدخل اليوميّ الذي كانت تحققه إحدى المكتبات في مدينةٍ صغيرة بداية التسعينات وبين مبيعات الصحف اليوميّة في نفس المدينة اليوم، والتي لا تتجاوز العشرات في أفضل حالاتها، كفيلٌ بقياس النكبة التي أطاحت بالصحافة الورقيّة وهزّت عروشها في فلسطين وبقيّة دول العالم، ويُعطينا فكرةً عن هذا القطاع الاقتصادي الضخم ذي الإمكانيات الكبيرة، الذي انهار وتقطّعت أوصاله، ولم تبقَ منه سوى بعض الأطلال والذكريات.
وعلينا أن نعترف أن وسائل التواصل الاجتماعي قد تمادت في إضرارها بالصحافة ومختلف وسائل الإعلام، وتخطّت الأثر المحدود الذي كانت تُحدثه وسائل الاتصال الجماهيريّ المُستحدثة على الوسائل الأقدم منها، فأضرار الإذاعة والتلفزيون والإنترنت مجتمعة لم تؤثر في الصحافة الورقيّة، ولم تَدُكّ عروشها بالمقدار الذي ساهمت فيه تلك المواقع والتطبيقات الجديدة، والتي لم تخطف الجمهور من الصفحات المطبوعة فقط، بل سحبتهم أيضاً بعيداً عن أصوات الراديو وشاشات التلفاز وحتى شاشات الكمبيوتر، ليتقوقعوا في شاشةٍ صغيرةٍ حدّدت مصادر استهلاكهم المعلوماتيّ، وقلّصت من تحصيلهم الفكريّ والمعرفيّ، وأشبعت حاجاتهم الاتصاليّة بفقاعةٍ من المحتوى الفائض بالمعلومات الخاطئة والشائعات والمواد التي لا تُراعي الأخلاقيات الإعلاميّة أو الذوق العام، وجرينا جميعاً كقطيعٍ كبيرٍ إلى تلك "المدينة الفاضلة" دون أن نعلم أننا الضحايا.
ولربما حان الوقت لنتحدث أكثر عن مصير مجتمعاتنا البشريّة في عالمٍ بلا صحافة، من خلال استذكار الدور الحقيقي الذي تلعبه وسائل الاتصال الجماهيريّ والحاجات التي تحققها للمجتمع، حيث يقول عالِم الاتصال "ولبر شرام Wilbur Schramm" إن الإنسان في حاجةٍ دائمة إلى وسيلةٍ تراقب له الظروف المحيطة به، وتُعلمه بالأخطار المُحدقة به أو الفُرص المتاحة له، وتقوم بنشر الآراء والحقائق لتساعد الجماعة في اتخاذ القرارات، وتُخبر الأفراد بالقرارات التي تتخذها الجماعة، وأن تقوم هذه الوسيلة بنشر حكمة الأجيال السابقة والتطلعات السائدة في المجتمع إلى الأجيال الناشئة، ووسيلة ترفّه عن الناس وتُنسيهم المعاناة والصعوبات التي يواجهونها في حياتهم.
وتلك الأدوار الاتصاليّة التي تقوم بها وسائل الإعلام تتلخّص في ثلاث وظائف أساسيّة لسدّ حاجات المجتمع: "الإخبار، والتعليم، والترفيه"، وقد نجحت وسائل التواصل الاجتماعي في إيهام الجماهير بقدرتها على إشباع تلك الحاجات والحلول مكان وسائل الإعلام، ناهيك أنها قد حوّلتهم جميعاً إلى كُتّابٍ وصحفيين وإعلاميين ونُشطاء ونُقّاد وفنّانين وباحثين ومُفكّرين ومُؤثّرين، وتلاشى دَور "حارس البوابة" الذي كان يشغله محررو وسائل الإعلام، ليُصبح الفضاء الاتصاليّ "وكالةً من غَير بوّاب".
فإن نظرنا للوظيفة الأولى: "الإخبار" فسنرى أن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم وبدون منازع قد أضحت أكبر مستنقعٍ للأخبار والمعلومات، لكنه مستنقعٌ مليءٌ بالطفيليات والشوائب التي تعكّر لون مياهه وعذوبتها، كالشائعات والأخبار المفبركة والتحريف وخطاب الكراهية والعنصريّة والبروباغاندا السياسيّة الموجهة في قوالب خبريّة، بالإضافة إلى المبالغة والتهويل وانتهاك الخصوصيّات والقائمة تطول، ولا يتوقف الأمر عند تشويه المحتوى الخبري، بل يمتدّ إلى تدخّل وسائل التواصل الاجتماعيّ وتحكمها بمشاهدة الفرد للأخبار عبر تقنيات الذكاء الاصطناعيّ والتعلّم الآلي المخصصة لإبراز الأخبار التي تُثير اعجاب الشخص؛ لتخلق واقعاً موازياً في ذهن الشخص نفسه بعيداً عن الواقع الحقيقي، وتزيد التطرّف والتباعد بين بني البشر بدل أن تخلق جسوراً للتقارب.
وأما الوظيفة الثانية: "التعليم"، سواء كان للأطفال أو البالغين فهو في طريقه لعصورٍ مُظلمة، وباستثناء قلّةٍ فإن الكثير من مثقفي الفضاء الإلكترونيّ لا يتقنون سوى "النسخ واللصق" بإعادة مشاركة المعلومات، وكالأخبار فإن كثيراً من المحتوى التعليميّ والثقافيّ المنشور مليءٌ بالمغالطات والمعلومات غير الصحيحة أو الدقيقة، وغالباً ما تُهيّمن السطحيّة على المحتويات المنشورة.
وأما الوظيفة الثالثة: "الترفيه" فسنجد أن المحتوى الترفيهي في أغلبه قد قلّت جودته بشكلٍ عام من حيث الشكل والمضمون، مع تراجع نسبة الأعمال الهادفة على حساب الأعمال الفارغة التي لا تهدف سوى لحشد المشاهدات.
ولا ننكر بالطبع أن لوسائل التواصل الاجتماعيّ أفضالاً وإيجابياتٍ على الأفراد والمجتمعات، سواء كان بربط البشر في شتّى بقاع الأرض، وإعطاء أصواتٍ لمن لا صوت لهم، وإيجادها لإعلامٍ بديلٍ في البلاد التي تنتشر بها مقصّات الرقيب ومنع الحريّات، لكنّ احتلال هذه المواقع والتطبيقات مكان وسائل الإعلام شكّل ضرباتٍ كُبرى لمجتمعاتنا دون أن نشعر.
وها نحن نتجه إلى أن نصبح أكثر عُنفاً ودمويّةً وعنصريّةً وتفاهة، وأقلّ ودّاً وانفتاحاً وعنفواناً وثقافة، وبعد أن كان أطفالنا يتعلمون عبر وسائل الإعلام القيم والأخلاق الحميدة والقراءة والكتابة وحروف الهجاء، فقد أصبحوا يتعلمون الجشع والأنانيّة وتضخمت عندهم النزعة الاستهلاكيّة بشراهة بفضل الأساليب اللا-أخلاقيّة وغير المباشرة في الترويج الإعلاني للأطفال دونما حسيبٍ أو رقيب، وبعد أن كان المثقفون وأصحاب الفكر هُم العامل الأهمّ في تشكيل الرأي العام، أصبحت مُراهقات التيك توك، وبائعات مُستحضرات التجميل على إنستغرام وسناب شات، ومحدودو الفكر الذين جمعوا ملايين المتابعين على فيسبوك ويوتيوب وغيرهما هُم القادة الحقيقيين للرأي العام في هذه المرحلة، فهل ستأتي صحوة الجمهور قبل فوات الأوان؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.