وأنت تقرأ هذه الكلمات، تأمل جهازك الذي بين يديك والذي تقرأ من خلاله هذه الكلمات، سواء أكان هاتفاً ذكياً أم جهازاً لوحياً، أم حاسوباً. هل ترى اسم دولة أو شركة عربية عليه؟! هل هو صناعة عربية؟! ابتكار عربي؟!
الحال ذاته ينطبق على الغالبية العظمى مما يحيط بنا من أجهزة إلكترونية، أو سيارات أو طائرات أو أدوات مدنية كانت أم عسكرية، بل برامج وتطبيقات إلكترونية أيضاً، فأين نحن كعرب على خارطة التكنولوجيا العالمية؟! وإلى أين نسير؟ وهل يمكن أن نظل على وضعنا الحالي، مجرد مستهلكين ننفق أموالنا أفراداً ودولاً للحصول على ما أنتجه العالم في الغرب والشرق؟ ما هي أسباب التأخر وكيف السبيل لنصبح مارداً عالمياً في هذا العصر المتسارع؟
موقعنا في عالم التقنية
التكنولوجيا كما سواها من العلوم والهندسة، تزدهر بتراكم المعرفة والإبداعات والاختراعات والاختراقات، وتقوم على بنىً تحتية ضاربة في الأعماق، لهذا فأنت تجد تبايناً شاسعاً بين الدول المنتجة للتكنولوجيا، فمن استثمر فيها مبكراً، كالولايات المتحدة واليابان وفنلندا وألمانيا وكوريا الجنوبية، حصد أكبر حصة سوقية عالمية. لكن من ناحية أخرى فبعض مجالاتها تمتاز ببساطة الأدوات وسهولة توفيرها، كجانب البرمجيات مثلاً، والصناعات التكنولوجية القائمة على الإبداع والجهد الذهني، أو التصنيع وخطوط الإنتاج، وهذا ما جعلها وسيلة تختارها بعض البلدان للنهوض بنفسها كنموذج ماليزيا والهند.
في خضم الوضع العربي المرتبك بأغلبه والمتشبع بالإشكالات السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والدينية، فإنك لا تكاد تجد أن هناك رؤية أو توجهاً نحو جعل بلداننا -أو لنقُل غالبيتها- مراكز للإنتاج والإبداع التكنولوجي الأصيل. فحتى الدول التي تمتلك الوفرة المالية والمقدرات والبنى التحتية اللازمة، تجدها غرقت طواعية أو مكرهة في قضايا أخرى جعلت تقدم البلد التكنولوجي أمراً ثانوياً. لهذا فالقارئ سيضحك ساخراً إن قلت له: ماذا لو حمل الأمريكي والأوروبي والآسيوي أجهزتنا التكنولوجية الأصيلة المحملة ببرامج صناعة عربية أصيلة! فنحن ندرك أننا اليوم ما زلنا لم نضع أول نقطة لنا على الخارطة العالمية للتكنولوجيات الحديثة! حتى وإن استثمرت بعض بلداننا في شركات عالمية، فهي مجرد مساهم مالي لا يملك من الأمر شيئاً، وليس له اسم يذكر حين الفضل!
أهمية التقنية
لم تعد التكنولوجيا مجرد أدوات تسهل الحياة، بل باتت نهجاً جديداً للحياة، وفي عصر جائحة كورونا، وبعد أن صار كثير من العمل والدراسة عن بعد وفي أغلب بلدان العالم، لم نعد بحاجة لنقاش أهمية التكنولوجيا أو تأثيرها على حياتنا اليومية، فهي اليوم ثقافة تربت عليها أجيال منذ نعومة أظفارها، وانخرط فيها كل الأجيال، فلا تكاد تمر دقائق على أحدنا دون أن يستخدم هاتفه الذكي أو غيره من الأجهزة والبرامج، وبهذا فقد تأثرت بها أنماطنا الثقافية والاجتماعية والتربوية والتعليمية ناهيك عن مختلف الأعمال. من هذا المنطلق، فتزداد الفجوة الحضارية والتقنية عندنا كعالم عربي ما لم نلحق بقطار التقنية كمنتجين مؤثرين فاعلين نبنيها ونؤسسها ونتفاعل معها بما يتناسب مع ثقافتنا وحضارتنا العربية والإسلامية الضاربة في العمق.
يقول قائل: ماذا يضيرنا لو بقينا نشتري ما يلزمنا بمالنا ونستخدم أدواتهم وعلومهم؟ وهو رأي قد لا تسمعه كثيراً لكنك ستصطدم به كحالة بائسة حين ترى طاقاتنا الجمعية المهدرة تتوجه باتجاهات غير منتجة، وحين ترى حالة التفاخر والتباهي بما نستهلك! قديماً قيل ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تصنع، فأنت بذلك تكون رهينة لمن يمدك بالغذاء والدواء والصناعات، وفي عصر التكنولوجيا التي ما عادت ترفاً على هامش الحياة، بل باتت مؤثراً وازناً في حياة كل فرد وفي كل مفاصل الدول ومؤسساتها المدنية والعسكرية، فمن تحكم بك تقنياً صار قادراً أن يعيدك عقوداً للخلف بل ويدمر حياتك إن شاء أو يراقب كل تحركاتك وتفاصيلك وتصير مكشوفاً مرهوناً مأسوراً له، وبهذا فلنا أن نقول: ويل لأمة تستهلك تقنيات مما لا تنتج!
أسباب ضعف قطاع التقنية
قطاع التقنية كبقية القطاعات يتأثر بكافة الأوضاع التي تؤثر على الاستقرار والاستثمار والعمل، ولأنه قائم بالأساس على الابتكار والإبداع والمبادرات المبكرة والاستثمار المخاطِر، أي على العقول المتميزة، فهو سريع التفلت، أبواب الهجرة أمام رواده بل وأعمالهم الجاهزة مفتوحة مبكراً، لهذا فليس غريباً أن تجد مؤسسين عرباً في منتجات تقنية عالمية منتشرة.
وفي الحديث عما أوصلنا إلى هذه الحال، سيختلف الأمر من بلد لآخر، لكن ستجد السياسات المحبطة لريادة الأعمال، والبيروقراطية المدمرة للإبداع، وضعف البنى التحتية، ونقص صناديق التمويل وبرامج التدريب، وكذلك إشكالات التعليم والبحث العلمي والإدارة، إضافة إلى الإشكاليات الثقافية التي عززت دور الفرد العاجز على الفرد المثابر الفاعل المنتج المتحدي لكل الظروف، وتفاصيل أخرى كثيرة.
احتياجات قطاع التقنية للنهوض
رغم كل التحديات والمعيقات، فالصورة ليست قاتمة، وقطاع التقنية والتكنولوجيا في العالم العربي قطاع حي وفاعل بين بقية القطاعات، ويقدم خدمات ومنتجات محلية وعربية وعالمية في كثير من الدول، ونمتلك مهارات مميزة وكفاءات علمية ومهنية تنافس على المستوى العالمي، فأنت تجد مهندسين عرباً بكثرة يعملون مع أفضل شركات التكنولوجيا العالمية ولهم أدوار وتأثير في هذه الشركات. وكذلك فهناك هيئات تعنى بقطاع التكنولوجيا في كثير من الدول العربية ولها تأثير وفاعلية لا بأس بها. غير أن الوقت لم يفت بعد، فلم نزل قادرين على خوض غمار عالم التقنية بل وقيادة جوانب متعددة منه إذا ما امتلكنا الإرادة والخطة والعمل الجمعي والفردي، وفي هذا السياق يلزمنا الالتفات لجوانب عديدة منها على مستوى الدول والحكومات ومنها على مستوى الجامعات والقطاع الخاص ومنها ما يتعلق بالمستوى الفردي:
· بناء منظومة تشريعات وقوانين تسهل وتشجع الاستثمار في التكنولوجيا، وتبعده عن البيروقراطية المعتادة، وتتعامل بإيجابية مع خصوصية هذا القطاع بعيداً عن الأهداف القصيرة المدى في الجباية والمحاصّة.
· تعزيز البنى التحتية وتغليب المصلحة الوطنية والعربية الشاملة على مصالح بعض الفئات والشركات، وتعزيز حرية الاتصال والتواصل بعيداً عن تقييد أساليب الاتصال من أجل مصالح لفئة معينة أو من أجل جني بعض الإيرادات، فكيف نتوقع تعزيز هذا القطاع وكثير من الدول العربية تقيد الاتصالات عبر الإنترنت؟ فقطاع التكنولجيا قائم بالأساس على الانفتاح والتعاون اللامحدود مكانياً!
· تأسيس مراكز أبحاث في مختلف المجالات التقنية والتكنولوجية، وكليات متخصصة في التأهيل والتدريب في التخصصات الدقيقة. إضافة إلى إنشاء أكاديميات تعليمية متخصصة باللغة العربية تقدم محتواها ومساقاتها عبر الإنترنت.
· إنشاء دور للنشر والترجمة المتخصصة في مجال التقنية والتكنولوجيا، وتعزيز دور اللغة العربية وجعلها لغة أصيلة تساهم في صياغة مفاهيم تقنية جديدة.
·تطوير المناهج الجامعية بما يشمل الثقافة العربية، إضافة إلى مواكبة إحدث التغيرات العالمية، وتطوير أساليب التدريس وبناء شراكات بين الجامعات العربية بما يشكل أفضل الفرص والحوافز للطلبة والباحثين.
· إنشاء صناديق للتمويل المتخصص في مجالات التكنولوجيا، تشكل حاضنات للشركات التكنولوجية الناشئة من تمويل وتدريب واستشارات.
· إنشاء منصات تقنية عربية متخصصة لتبادل المعارف والخبرات.
· بناء شراكات مع الكفاءات العربية حول العالم.
· تعزيز ثقافة الإبداع الفردي وتوطين الثقة بالنفس وتحطيم الإحباط، وبناء شراكات بين الأفراد للعمل على مشاريع خاصة، وذلك يحتاج لتضافر جهود الإعلام والمثقفين والمفكرين والمؤثرين في العالم.
أثق بأننا قادرون على أن نصل قريباً إلى موقع عالمي ريادي في عالم التكنولوجيا، بما يحفظ ثقافتنا ويعبر عن هويتنا العربية المتميزة بالقيم والأخلاق المنسجمة مع ديننا، وسنصنع فرقاً حضارياً كبيراً كما نصنعه اليوم أفراداً ومؤسسات وشركات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.