إن الكرة الأرضية في هذا الوقت من كلِّ عامٍ على موعدٍ عظيمٍ، قد سبق ذكره في أعظم كتابٍ على وجهِ البسيطة، هذا الوقت من كل عام هو استقبال عروسِ كل عام، هذا ضيفٌ عزيزٌ على القلوب، تجلس من العامِ أحدَ عشرَ شهراً استعداداً لشهرٍ واحد.
تأتي مكانته هذه من ذكر الله له في كتابه العزيز أننا على موعدٍ كل عامٍ بـ"أيام معدودات"، ثم يبين عظمة تلك الأيام بقوله: "شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن"، ثم خصَّ بالذكرِ الليلة التي بدأ فيها نزول أشرفِ كتابٍ على أشرف الخلق محمد صلّى الله عليه وسلم، فقال: "إنّا أنزلناهُ في ليلة القدر".
فمن هنا كان جديراً بشهرٍ أُنزِل فيه القرآن الكريم الذي هو "شفاء لما في الصدور" أن تنتظره الصدور المريضة لتُشفى، أن يعود الأملُ للأسقامِ التي أرهقت الجسد طيلة العام أنها ستزول، أن ينعم الجسدُ بحياةٍ بقدوم الحياةِ لروحه، هذا شهرٌ تعود الأرواح فيه إلى أجسادِ الموتى التي لم تزُر القبور.
"أهو جه يا ولاد، هيصوا يا ولاد"
أتذكر حين كنا نستقبل رمضان في طفولتي، حين كنا ننتظر أول سحورٍ له، ذاك السحور الوحيد في الشهر الذي نأكلُ فيه ونعرفُ ماذا نأكل، والأعينُ يقظةً، كنا نلتفُّ حول الطعامِ نلتهمه كله، ثم لا ندع كوب الماء حتى يأتينا أذان الفجرِ.
حين يأتي الصباح كنا نرتمي من التعبِ تُحدِّثنا نفوسنا أننا مازلنا صغاراً ولا نستطيع، لكن أحدنا لا يستطيع أن يخسر في السباق.
كان يأتي أذانُ المغربِ كالغيثِ لحلوقنا، ترانا قبل المغرب بدقائق كالأموات، فما يكاد يفرغ المؤذن من أذانه، إلا ورأيت الحياة تدبُّ في عروقنا، وانكببنا على كوب الماء أفرغناه، ثم يأتينا صوت أمي تصرخُ فينا: "كفاية ميّة يا واد انت وهي، وكلوا حاجة تسندكم، هتدوخوا".
لكننا كعادتنا لا نسمع إلا صوت بطوننا التي جفَّت طيلة اليوم فنرويها بالماء، ثم بعد أن ننتهي يحدث ما حذّرتنا منه أمي، كعادتها، فنُلقَى على الأرضِ كالأموات، قد شبعت بطوننا من الماء، فلم يعد مكانٌ للقمةٍ واحدةٍ تسندنا.
ولا يكتمل فطور رمضان دون "بكّار"، لا يوجد بيتٌ في مصر لا يعرفُ "أبو كف رقيق وصغير"، أصوات التلفاز كانت تتصاعد من المنازل، فلا تعرفُ ماذا يأكل جارك، لكنك تطمئن أنه سيشبع مادام يشاهد المعزة رشيدة ومازالت مغامرات "حسّونه" لم تنتهِ.
"وحوي يا وحوي "
بعد أن نفرغ من الإفطارِ، وبعد التحلاية، ننتشرُ في الشوارع، كلُّ طفلٍ بفانوسه، كنت أؤكد على أمي أن يكون فانوسي الأكبر دائماً، ولابد أن تكون بداخله شمعة، ولا بأس إن قال: "وحوي يا وحوي" أو لا، فصوتُ الأطفالِ لا يحتاج لصوتِ الفانوس، فنجوب الشوارع كلها ونحن نُردِّدُ: "وحوي يا وحوي"، حتى يأتينا صوت صلاة التراويح، فنأخذ استراحةً على أمل أن نعود للفانوس بعد أداء الصلاة.
كنتُ أتخيّرُ من المساجد الذي يستقبل صاحب أفضل صوتٍ دائماً، كانت عادةً مازلتُ أحتفظ بها حتى كَبِرتُ.
كانت صلاة التراويح دائماً ترويحاً على قلبي، الساعات القليلة في كل عام التي يهدأ فيها صوت قلبي وعقلي على السواء.
ثم ما إن يفرغ الإمام من قول السلام عليكم حتى نعود إلى "هاتوا الفوانيس يا ولاد هاتوا الفوانيس".
كنا في احتفالٍ دائمٍ برمضان كأنهُ عريسٌ نزفّهُ إلى عروسه.
"رمضانُ بين الصغر والكِبَر"
حين يعبر المرءُ منّا إلى العشرينات مثلاً لن يهتم بحجمِ الفانوس، وإن كان بشمعةٍ أو لا، لكن شيئاً من الطفولةِ لا يرحل وإن بلغ عمرُ المرءِ السبعين؛ صعوبة الاستيقاظ للسحورِ مثلاً، كلمات أمي المحذّرة من شرب الماء الكثير، وعدم استماعنا لها أيضاً، الفرحةُ بقدومِ رمضان مثلاً!
رمضانُ هو هو، بطعامِ سحوره، بكنافة رمضان وقطايف رمضان، وشكل الشوارع وزينة رمضان، وفوانيس الأطفال، وفرحة رمضان.
غير أن أهداف الفرحة تتغير مع تقدم السِن، ومعرفة الهدف الأسمى من قدوم رمضان، وأنه ليس فقط فرحةً في قلوب الأطفال، بل إنه يُحيي قلوب الكبار التي أُرهِقت طيلة العام.
كنا قديماً نفرح، والآن الفرحةُ صارت أكبر؛ الآن رمضان في ثيابه الجديدة، هو ذات الضيف الذي عهدناه في الصِغَر، لكن هدايا الكِبار تختلفُ عن الصِغار، لن يأتي حاملاً في يديه فوانيس فقط، لن يُضاء فيه ضوء الفانوس فقط، لن يفرح القلبُ بـ"وحوي يا وحوي" فقط، لم نعُد ننتظره لتجميل الشوارع فقط.
قلوبنا الآن صارت تتضوّرُ جوعاً لفرحةٍ أخرى، أدركنا الآن غاية رمضان، وحاجة قلوبنا للنور، نحن بحاجة لهدايا أُخرى، تمتدُّ إلى هناك، لا تكفي فرحة الساعة والساعتين، نريد أن يرحمنا الله في العشرة الأُول من رمضان، وأن يغفر لنا في العشرِة الثانية، وأن يعتق رقابنا من النَّارِ في الثالثة.
رمضانُ شهر القرآن، ما إن يهلّ رمضانُ إلا ونُسرع إلى المصاحف التي أبعدنا الشيطانُ عنها طويلاً، كيف لا وهو " شهرٌ تُسلسَلُ فيه الشياطين وتُغلَقُ فيه أبواب النيران"، ليس هناك ما يعوق القلوب من الإقبال عليه، نتشرَّبُ حروفه، نعيشُ كلماته، نحنُ المعنيون بكلِّ حديثٍ فيه، الآن نبكي عند آية العذاب ونستيعذُ الله منها، ونعود ونرجو جنَّتهُ في حديثه عما أعدَّ للمؤمنين من الجِنان، ثم نذوب في آياتِ رحمته، وندعوه أن تشملنا.
قبل المغربِ بدقائق لابد أن تستمع إلى صوت الشيخ نصر الدين طوبار، أو ابتهالٍ للنقشبندي، لتُدركَ أنك الآن فقط في رمضان، وأن المغرب على وصول.
"هنصلي التراويح فين السنة دي؟!"
كان هذا سؤال كل عامٍ المحفوظةُ إجابته؛ خلف الإمامِ صاحب أعذب صوتٍ، لنرتاح.
كانت التراويح "اسم على مُسمَّى" راحةً لقلوبنا، صارت القلوب تهفو إلى أكثر مَن سيؤثِّرُ فيها بجمال صوته، مَن تستطيع معه أن تعيش الآياتِ التي تسمع، يفوزُ دائماً الذي يُبكيك.
في التراويح راحةٌ لا يُدركها إلا مَن استشعرها مرةً واحدةً على الأقل، تكفي مرةٌ واحدة لتعرف أن الترياق هنا، وأنك لم تكن حيّاً قبل أن تشرع في الصلاة، وأن صلاتك طيلة العام ليست بصلاة.
هنا القلوب خاشعة، العقولُ حاضرة، الجوارحُ مِطواعة، الشياطين مُقيّدة، هنا لذةٌ في الصلاة لن تجدها في فجرِ كل العام.
"العشرة الأواخر وفرصة العِتق من النار"
الأيام العشرة الأخيرة من رمضان تكون دائماً بمثابةِ التجارةِ مع الله، وكل التجارات مع الله رابحة، كيف لا وربحُ التجارةِ هذه النجاة من عذابِ النار!
يتسارع الجميع إلى العبادات، تجد المساجد مُزدحمةً بمَن أرادوا الاعتكاف، الجميع قلوبهم في اعتكافٍ على طاعة الله، وجوارحهم مُسَخَّرةً لذلك.
ثم تزيد الطاعة في الأيامِ الفردية، حيث انتظار ليلة الألفِ شهر، الليلة الشاهدة على نزول خيرِ كتابٍ على خير البشر.
"ألا صلّوا في بيوتكم"
كانت المساجدُ كل عامٍ تزدحم بالمُصلّين في صلاة التراويح، وفي التهجُّد، حتى أتى عامٌ وصار الأذان "ألا صلوا في بيوتكم".
تخيّل إنساناً طيلة العام ينتظر الشهر الذي سيركض فيه إلى المسجدِ، الذي اختبر لذةَ التراويح، يطلبون منه أن يؤدي التراويح هذا العام في بيته!
كان الحرمانُ من صلاة التراويح في هذا العام أشدّ ألماً على القلوب من فقدان أجسادها للأكسجين تحت تأثير "السيّد كوفيد".
حين أتى "كوفيد باشا" حال بين الأجساد والحياة بغلقِ أبواب المساجد، دون سماع صوت الإمام الأكثر خشوعاً.
لم يعد أي شيءٍ كما كان، لم يعد رمضان كما عهدناه، لم نرتَح رغم أدائنا لصلاة التراويح في البيوت.
في بيوت الله شيءٌ مختلف، شيءٌ يُشعركَ طواعيةً أنك بين يدي الله وفي بيته وتسمع كلامه وتُحدِّثه وترجوه ويُجيبك وتفُز بالجنةِ وتنجو من النار، كل ذلك وأنت لم تفرغ من الصلاة بعد.
هذه السكينة التي تعتري النفوس فور أن تطأ قدمك باب المسجد.
كان رمضان هو هو، والطاعات هي هي، والدعوات هي هي، مازال الله يستجيب، وأبواب الجنة لم تُغلَق، مازال الله يرحمُ ويغفرُ ويعتقُ من النيران.
لكن غصةً في قلوبٍ تعلّقت بالمساجد لم ترحل.
"افرحوا يا بنات يلا وهيصوا رمضان أهو نوّر فوانيسه"
الآن نحن في هذا التوقيت تماماً في استعدادٍ لاستقبالِ رمضان، سنشتري الفوانيس، ونُزيّنُ الشوارع، السحور جاهز، وقمر الدين جاهز، والتمر جاهز، والقلوب جاهزة، والمساجدُ أيضاً جاهزة، ولا عزاء للسيد كوفيد، لن نُصلي هذا العام في بيوتنا، إن شاء الله.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.