انتظار النهوض من الساسة الغارقين في اللحظة الراهنة هو نوع من الأمل المعقود على المستحيل، في ظل الخلل البنيوي الذي نرى أن المؤسسة الحاكمة في ليبيا، بل الدولة بالعموم تعاني منه.
الثقافة والمعرفة الدقيقة بجذور الأزمات والغوص في أعماق أبعد من تلك التي يراها المتعجلون قد تكون إحدى ضرورات التوصل إلى كيفية وضع العربة وراء الحصان، ومعرفة سبيل إعادة القطار إلى سكته، وإلا فإن كل جهد يقتصر فقط على التعاطي الآني مع ظواهر الأمور لن يكون سوى تكرار لأساليب جُربت من قبل، وثبت فشلها على المدى البعيد والمتوسط، في وضع حلول ليبية حقيقية بعيدة الأثر للمشكلات الليبية المزمنة، وسيبقى السبيل القديم الجديد الذي يعتمد على إنفاق المزيد من المال لإسكات الناس وتسكين الآلام، دون معالجة الداء وإزالة العلة، لا يعدو كونه تبريداً للغليان أو تجميداً لعوامل السيولة، دون انتقال فعلي من حالة السيولة إلى حالة التماسك الصلبة القادرة على اكتساب الوزن النوعي للدولة الليبية، وسط إقليم مضطرب يفتقر إلى معظم عوامل الإدراك الاستراتيجي، وصناعة الدولة الفاعلة بدلاً من دولة ردود الفعل؛ دولة تؤثر وتتأثر وليست فقط واقعة تحت تأثير الآخرين، وتتحرك ضمن مخططاتها وليس داخل خطط الآخرين واستراتيجياتهم.
إنني لا أدعو إلى تجاوز قوى الأمر الواقع والقفز في الهواء لتحقيق قوة دولتنا الليبية المنشودة بجرة قلم، ولكنني أتحدث عن رؤية لها جذور ضاربة في العمق تُنبت جذعاً صلباً يخرج منه أغصان لها أوراق وأزهار تنتج ثماراً دانية لأجيالنا الحاضرة واللاحقة، ليست مجلوبة من وراء البحار وليست مستوردة عبر الحدود وليست ضربة لازب أو خرص عرافين.
الحركة والتغيير هما ما يميز موازين القوى في المنطقة والعالم، أما السكون والخمول فهما طريق التخلف والتبعية، والثابت الوحيد في عالم اليوم هو التغيير، لذلك فإن جمودك في عالم متحرك يوسع الهوة بينك وبين الراكضين يوماً بعد يوم، ولكن انتباهك واستفاقة إدراكك لذاتك ومعرفتك بقدراتك نقطة انطلاق لا مفر منها، ليعقبها انتقال من الاستفاقة إلى الحركة.
كلامنا هذا ليس ترفاً فكرياً، ولكنه ضرورة لازمة، إذ إن الفراغ الناجم عن غياب الرؤية والفعل لدينا يغري اللاعبين الكبار والصغار بالتنافس على فراغنا ليشغلوه ويملأوه بما يخدمهم ويجعلنا خدماً لهم في أرضنا ووكلاء عنهم في بلدنا.
شواطئنا الممتدة وصحراؤنا الواسعة وشمسنا الساطعة ومناخنا المعتدل وثرواتنا الكامنة والظاهرة هي ملك لنا ولأجيالنا القادمة وشعبنا الطموح، الذي هو لب ثروة البلاد وعاملها الفعال إذا ما تزود برؤية مستقبلية تنطلق من الآن، وقيادة واعية تدرك الغايات والأهداف وتحدد الوسائل وتتحدى الصعاب وتتخلى عن النظرة الدونية لليبيا الشعب والأرض والتاريخ والجغرافيا، وتعتبر نفسها أجيرة لدى شعبها، فإن شعبنا سيبني عندئذ دولة لها وزن وتأثير ودور في الداخل والخارج، دون الحاجة إلى أطماع السيطرة والتمدد ولا الاستكانة للأطماع الخارجية في التمدد في الفراغ الذي نجم عن ضعفنا وغفلتنا وغياب الرؤية والإرادة لدينا.
كل من قرأ كلام العالم المصري جمال حمدان عن ليبيا الذي كتبه منطلقاً من علمه متأثراً بعروبته ومصريته، وحرصه على وعينا بذواتنا، يرى فيه خطوطاً عريضة تمثل أحد مقومات صياغة مشروع دولة لا تخضع لإملاءات الشمال، ولا تتنكر لفضل الجيران، ولا تستعلي عن روابط التاريخ ووشائج القربى، ولا تنفي تنوعها العرقي، ولا تغرق في شيفونية القوميين، ولا نزق الانفصاليين، كما أنها لا تغفل عن متطلبات العصر واستحقاقات اللحظة الراهنة، بل تُوائم بين جبر الضرر الواقع وجسر الهوة للمرور نحو المستقبل.
الجغرافيا السياسية تقول لنا إن ليبيا ولدت ومعها عوامل القوة، ولسنا بصدد مناقشة تاريخ ميلادها ومتى عرف هذا الاسم في التاريخ فنحن نتحدث عن دولة وطنية وجدت في عالم اليوم، ولن ننشغل بمحاولة إعادة عجلة الزمان، ولن ننخرط في دونكيشوتيات لا طائل من ورائها، إننا ننفض الغبار عن قانون التحدي والاستجابة لننحت بأظفارنا إن لم نجد أدوات الحفر في الصخر، حتى نمتلك زمام أمرنا ونقحم أنفسنا في قلب المضمار، بدل أن نبقى في مدرجات المتفرجين.
ليس هناك من يجادل في القيمة السياسية والاستراتيجية لبلدنا، ولكننا نريد أن نثير بناء على ذلك جدلاً خلاقاً، ليحل محل ذلك الجدل العقيم الذي يبدأ وينتهي عند الإلقاء باللائمة على الآخرين، فيستغرق الوقت والجهد في البحث عن مجرم نتهمه بتضييع ماضينا والتفريط في مستقبل أجيالنا؛ هذا الجدل العقيم ليس محل اهتمامنا في هذه الورقات، إذ إننا نريد فعلاً جدياً وعملاً حقيقياً لن ننطلق فيه من الصفر، فقد سبق للدكتور محمود جبريل رحمه الله أن وضع فيه بصمته مع فريق من أكبر خبراء وعلماء ليبيا، منهم من قضى نحبه ومنهم من لا يزال حياً، يشهد على تلك المرحلة من التفكير الخلاق الذي لم يجد الطريق نحو التنفيذ.
الرؤية التي وضعتها تلك الثلة من الليبيين ليست نهاية المطاف بكل تأكيد، ولكنها جهد فريد لم يتكرر بتلك المقومات حتى يومنا هذا، وهو ما يؤكد إمكان صناعة رؤية ليبية لمستقبل مشرق ونحن وحتى لا يظن ظان أننا نريد سرقة جهد الرجل ومن معه، نسعى إلى أمر أكثر جذرية وأعمق أثراً في الواقع والمجتمع.
إنا نتطلع إلى بناء دولة ليبية كاملة السيادة، غير خاضعة لدول خارجية في اتخاذ قراراتها داخلياً وخارجياً، تمارس كل مظاهر هذه السيادة إقليمياً ودولياً، تحقق الرفاه لشعبها، ولا يضير عندئذ أن تكون دولة بسيطة أو مركبة، ولا معنى لرفض أن تكون جزءاً من تحالف أو حتى اتحاد يحقق مصالحها ويعزز من مكانتها ما دامت محتفظة بكيانها، قادرة على بسط سلطانها وإنفاذ إرادتها دون انتقاص.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.