لم يقتصر عماد الدين زنكي في قتاله للصليبيين على الحروب النظامية فحسب؛ إذ كان ذلك يقتضي منه البقاء باستمرار في بلاد الشام، واستنفاد قواه في قتال أعدائه هؤلاء، وعدم تمكنه -بالتالي- من التفرغ لتصفية مشاكله العديدة في العراق، والجزيرة، وأدرك أهمية الاستفادة من الغارات، أي: الهجوم والانسحاب السريع، لاسيما في فترات غيابه عن الشام، ذلك أنَّ هذا النوع من القتال سيتيح له الحصول على نتائج هامة.
أولها: إقلاق الصليبيين وعدم إعطائهم المجال لإعادة تنظيم قواهم، ورسم الخطط الهجومية على مواقع المسلمين في المنطقة، ومن ثم تمكين هؤلاء من الدفاع عن مراكزهم، والاحتفاظ بها.
وثانيها: إضعاف قوى العدو العسكرية، والاقتصادية، بما تحدثه -هذه الحروب- من قتل، وأسر، ونهب، وتخريب.
وثالث تلك النتائج: قطع الاتصال بين المراكز الصليبية شمالي الشام، وعدم إعطائهم الفرصة للتجمع وتوجيه ضربة موحدة ضدَّ المسلمين.
وقد اعتمد عماد الدين زنكي في هذا النوع من القتال على محاربي التركمان، ومهَّد لذلك بتوثيق علاقاته بقادتهم، وإسناد كبرى المناصب الحربية إليهم، وقد عمل زنكي على توفير القيادة الحاذقة من التركمان: إيتكين، ولجَّة التركي، والياروق وغيرهم، والمحاربين الشجعان، للقيام بشنّ ما يطلق عليه اليوم حروب المقاومة والعصابات، وجعل من حلب مركزاً لهم نظراً لأهمية موقعها بالنسبة للحصون الصليبية والإسلامية على السواء، فهي تتوسط أنطاكية، والرُّها الصليبيتين، وتسيطر على خطوط المواصلات بينهما، كما أنها تُـعَـدُّ خير قاعدة عسكرية لتوجيه الهجمات السريعة ضد مواقع وتحركات الصليبيين، وقوافل إمدادهم وتموينهم.
وقد قامت هذه الجماعات من التركمان بشن غارات عديدة ضدَّ جيوش الأعداء ومعسكراتهم، وقوافلهم، ومراكز تجمعهم، ولم تخلُ سنة من الصراع وحروب العصابات التي كان يقوم بها هؤلاء التركمان، ويلحقون -بفضلها- خسائر مختلفة في صفوف أعدائهم.
ففي رجب من عام 524هـ على سبيل المثال جهّز زنكي قوة عسكرية أغارت على عزاز الصليبية، وعاثت في بلاد جوسلين أمير الرُّها، وفي العام التالي حدث اشتباك بين سوار، وجوسلين شمالي حلب، أسفر عن انتصار الصليبيين، ومقتل عدد من المسلمين، ما دفع سوار إلى القيام بهجوم على ربض الأثارب، والاستيلاء على مقادير من أموالهم ومحاصيلهم، ثم ما لبث بعد عام واحد 526هـ أن أوقع بصليبيي تل باشر، وقتل منهم خلقاً كثيراً.
ولم يتوقف سوار وجنده التركمان عن شن الغارات ضد الصليبيين كلما أتيحت الفرصة لذلك، وشهد صفر من عام 527هـ عدة اشتباكات بين الطرفين، وقع أحدها بالقرب من قنسرين، إثر قيام بلدوين بيت المقدس بمحاولة للهجوم على أطراف حلب، حيث تصدَّى له سوار وجماعة من جنده، وأسفر القتال عن هزيمة المسلمين وانسحابهم إلى حلب، إلا أن قائدهم الشجاع ما لبث أن خرج بهم ثانية، ووقع على طائفة منهم، فأوقع بهم وأكثر القتل والأسر، وانهزم من سلم منهم إلى بلادهم، وعاد إلى حلب حاملاً معه رؤوس القتلى والأسرى، وكان يوماً مشهوداً.
ولم تمض سوى أيام قلائل حتى قام صليبيو الرُّها بمحاولة جديدة للإغارة على أعمال حلب، فخرج إليهم سوار يصحبه الأمير حسان البعلبكي أمير منبج، وأوقع بهم على حين غرَّةٍ، وتمكن من إبادة عدد كبير منهم، وأسر الباقين، ثم قفل عائداً إلى حلب دون أن يصاب أحد من جنده بأذى.
وفي جمادى الآخرة من العام نفسه قام سوار على رأس قوة من الفرسان بالإغارة على تل باشر، فتصدى له صليبيو ذلك الموقع، إلا أنه تمكن من هزيمتهم، وحصد رؤوس ألف رجل، حملها معه إلى حلب.
وفي ربيع الأول من العام التالي سار صاحب موقع القدموس الصليبي إلى قنسرين على رأس قوة من فرسان أنطاكية، فلقيهم عسكر حلب بقيادة سوار، وأسفر القتال عن انتصار الصليبيين، واضطر قائد زنكي إلى مصالحتهم، إلا أنه ما لبث أن باغت إحدى سراياهم بهجوم سريع، وتمكن من قتل معظم أفرادها، ثم قفل عائداً إلى حلب، فسُرَّ الناس بذلك بعد مأساتهم.
ولم يمضِ سوى وقتٍ قصيرٍ حتى أغار فرسان الرُّها على أطراف حلب الشمالية في طريقهم إلى أحد المعسكرات الصليبية، فأوقع بهم سوار وحليفه أمير منبج، وأباد عدداً كبيراً منهم، بينما وقع معظم الباقين في الأسر.
ثم ما لبث سوار أن قام -في العام نفسه- بغارة واسعة على المواقع الصليبية في منطقة (الجزر، وزردنا)، وأوقع بأعدائه عند حارم، ثم عاد إلى حلب محملاً بالغنائم والأسلاب.
وأخذ نطاق الغارات والهجمات المفاجئة يتسع شيئاً فشيئاً، وشهد رجب من عام 530هـ محاولة واسعة قام بها سوار؛ إذ سار على رأس ثلاثة آلاف فارس من التركمان، وفاجأ بلاد اللاذقية وأعمالها بهجوم مباغت لم يكن الصليبيون يحسبون له أيَّ حساب، وتمكن بذلك من أسر سبعة آلاف أسير، والحصول على مقادير كبيرة من الغنائم، واجتياح عشرات من القرى، والمزارع الصليبية، ملأ المسلمون أيديهم منها بالأسرى والغنائم، وقد استبشر مسلمو المنطقة أيما استبشار لهذا النصر الكبير الذي أحرزه سوار، والذي كان بالنسبة لصليبيي الشمال نكبةً لم يُـمْنَوْا بمثلها.
والواقع أن ما شاهدته أنطاكية خلال عامي 529هـ 530هـ من فتن داخلية بسبب النزاع على الحكم أسهم إلى حد كبير في عجز هذه الإمارة عن الدفاع عن نفسها إزاء هجمات المسلمين، الأمر الذي دفع قائدهم إلى استغلال الفرصة وتحقيق نصر كبير ضد صليبيي الشمال.
وفي أواخر العام التالي قام سوار بهجوم مباغت ضد سرية بيزنطية كبيرة العدد، كانت تتقدم شرقاً، وتمكن من قتل وأسر عدد من أفرادها، ثم قفل عائداً إلى مقره في حلب. ولم تمضِ سوى أشهر معدودات على هذا الهجوم حتى قام الصليبيون، والبيزنطيون بإرسال قوات مشتركة لاحتلال قلعة الأثارب القريبة من حلب، وبعد أن حققت هذه القوات هدفها، وأوكل إليها حراسة أسرى المسلمين الذين جمعوا في هذا الموقع، إلا أن سواراً ما لبث أن خرج على رأس قواته وهاجم الحامية الصليبية، والبيزنطية، وتمكن من استخلاص معظم أسرى المسلمين من أيديهم، وعاد بهم إلى حلب التي عمها السرور، وسادتها الأفراح لهذا النصر الذي حققه أميرها.
وفي عام 533هـ هاجم سوار عدداً من المواقع الصليبية واستولى على بعض الغنائم، إلا أن فرسان الصليبيين تمكنوا من اللحاق به، وإنزال هزيمة بقواته، أسفرت عن أسر ما يزيد عن ألف فارس منهم، وانسحب هو إلى حلب بمن سلم من جنده.
واستمرَّت المناوشات بين الطرفين طيلة السنين التالية، وأصابها بعض الفتور خلال عامي 534هـ 535هـ. إثر فشل زنكي في الاستيلاء على دمشق وتحالف الصليبيين والدمشقيين ضده، إلا أن هذه المناوشات ما لبث أن استعرت من جديد في عام 536هـ والسنين التي تلته، ففي الأشهر الأولى من هذا العام قام الصليبيون بهجوم سريع ضد بعض المواقع الإسلامية غربي حلب، ولدى تفرقهم أرسل سوار قوة من التركمان بقيادة ابنه علم الدين، أغارت على المواقع الصليبية، وتوغلت إلى أسوار أنطاكية، ثم عادت تحمل معها كثيراً من الغنائم والأسلاب.
وبعد فترة قصيرة أغار لجة التركي على بعض المناطق الصليبية في الشمال، فساق وسبى وقتل، وذكر أن عدد القتلى بلغ سبع مئة رجل، وفي رمضان من العام نفسه هاجم سوار معسكراً صليبياً عند جسر الحديد، إلى الشمال الشرقي من أنطاكية، بعد أن اجتاز بقواته نهر العاصي صوب تجمعات العدو، وتمكن من قتل معظم أفراد المعسكر، وأسر الباقين.
وما لبث أمير أنطاكية أن خرج -في العام التالي- للإغارة على وادي بزاعة القريب من حلب، فتصدى له سوار، وأجبره على الانسحاب، وتمكن جوسلين من اغتنام الفرصة فقام بهجوم على تجمعات المسلمين عند ضفاف الفرات، وتمكن من أسر تسع مئة رجل منهم، ثم ارتأى الطرفان عقد هدنة بينهما لم يكن لأمير أنطاكية نصيب فيها، وهكذا ظل القتال مستمراً بين هذه الإمارة وقوات حلب، وعندما خرجت طائفة كبيرة من تجار أنطاكية في جمادى الأولى من عام 538هـ تحرسها قوة من الفرسان في طريقها إلى بعض البلاد الصليبية المجاورة ومعها مال كثير وأموال ومتاع؛ باغتها المسلمون، وأوقعوا بها، وتمكنوا من إبادة كافة أفراد القوة التي خرجت لحمايتها، وغنموا ما كانت تحمله من بضائع قيمة. وفي أواخر ذي القعدة من العام نفسه هاجمت مجموعة من فرسان حلب قوة من الفرسان الصليبيين الخارجين من باسوطا، وأبادوهم، وأسروا صاحب باسوطا؛ حيث اعتقله سوار في حلب.
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، مؤسسة اقرأ، القاهرة، 2006، ص139-136
ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ط دار الفكر، بيروت، 1398هـ 1978م. (8/502).
أرنست باكر، الحروب الصليبية، نقله إلى العربية الدكتور السيد الباز العريني، دار النهضة العربية، بيروت. (1/510)
سعيد عاشور، الحركة الصليبية، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الرابعة 1986م. (1/26).
محمود سعيد عمران، تاريخ الحروب الصليبية، دار النهضة العربية، بيروت الطبعة الثانية 1999م.ص15
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.