كنت أعمل بإحدى الشركات في بداية الألفية، وفي أحد الأيام طرأت على ذهني فكرة مفادها "لماذا لا تكون في الشركة إدارة أزمات؟"، وبناء عليه قمت بمبادرة شخصية بتجميع البيانات اللازمة والاتصال بكوادر الشركة من أجل بناء إدارة أزمات تقوم بحماية الشركة والدفاع عنها وقت الأزمات.
وكان هناك متحمسون للفكرة وساعدوني، وما أن اقتربت الدراسة الخاصة بإدارة الأزمات أن تكتمل حتى تم استدعائي من قبل شخصية كبيرة بالشركة وسألني عما أفعله وقد أجبته باستفاضة، ولكنه فاجأني بتهكم أعطاني انطباعاً بأننا وصلنا للقاع، فتلك الشخصية دائماً ما كانت تدعو للعلم في الظاهر، ولكنها كانت تدعم الولاءات وأهل الثقة في طريقة عملها، وبالتالي كانت النتيجة أنني قمت بتمزيق الدراسة أمامه وخرجت ساخطاً على الجميع.
بعد زلزال 1992 والذي ضرب مصر قام رئيس الوزراء الراحل "عاطف صدقي" باستدعاء القوات المسلحة، لأن بها إدارة للأزمات قادرة على إدارة الأزمة، ولما سأل "لماذا لا يتم تعميم إدارة الأزمات في كل قطاعات الدولة؟" فأجاب بأن ذلك مكلف جداً.
ما الذي ينقص القطاع المدني لكي يقوم بإدارة أزماته بعيداً عن المؤسسة العسكرية التي يكون تدخلها في المواقف التي لا يستطيع القطاع المدني السيطرة عليها؟
لقد كان "شحوط" سفينة الحاويات العملاقة في قناة السويس أهم ممر مائي عالمي والأكثر ازدحاماً في العالم حدثاً غير اعتيادي لأن توقف الملاحة في القناة تكلف العالم في الساعة الواحدة أكثر من أربع مئة مليون دولار، ولهذا كانت أنظار العالم كلها موجهة للقناة وإدارتها، ولكن إدارة القناة أخطأت خطأ فادحاً عندما صرحت بأنها سيطرت على الموقف وأن حركة الملاحة استؤنفت، وهنا أفلت زمام المبادرة من يد إدارة القناة واتجه الجميع لوسائل الإعلام العالمية ليتابع ما جرى ويجري في القناة الأهم في العالم، ودخل على خط الأزمة رؤساء دول وحكومات بعدما أدركوا أن توقف الملاحة في القناة أصبح أمراً لا مفر منه، وأنه لا توجد إدارة للأزمات محترفه في قناة السويس، أو على أقل تقدير ليست إدارة مهنية قادرة على إدارة أزمة عالمية بهذا الحجم.
بعد بضعة أيام حدثت أزمة اصطدام قطارين بمحافظة سوهاج في صعيد مصر، وعلى بعد سويعات قليلة من الحادث ظهر تصريح غير مسؤول عن أن السبب في الحادث هو قيام مجهولين بالعبث بمكابح أحد القطارات، وقام الإعلام بتسويق ذلك التصريح، وهو تصريح إن دل فإنما يدل على غياب فكر إدارة الأزمات، ولهذا قامت جهات التحقيق بالتنبيه على الجميع بعدم استباق نتائج التحقيقات.
وهكذا ظهر أقل شيء في إدارة الأزمات وهو كيفية التعامل مع الأزمة إعلامياً، ليشير لعدم وجود إدارة ناجحة وهو ما استدعى قيام رئيس الدولة بإعطاء توجيهات وأوامر للجميع بسرعة التعامل مع الحدث، حتى أنك عندما ترى رئيس مجلس الوزراء وبعض الوزراء، والنائب العام، وأعضاء مجلس النواب والشيوخ، ورجال وزارة الداخلية، تشعر بأن الدولة المصرية باتت تدار من "سوهاج" على وقع حادث كان يمكن تفاديه أو على الأقل التعامل معه باحترافية من قبل مجموعة صغيرة إذا كانت هناك إدارة واعية ومحترفه للأزمات.
وهكذا تستمر إخفاقات القطاع المدني في إدارة أزماته، ويثار التساؤل مرة أخرى "لماذا لا توجد إدارة أزمات داخل كل وزارة للتعامل مع أزماتها بنجاح دون تدخل رأس الدولة؟".
عندما توجه تساؤلاتك عن عدم وجود إدارة أزمات، تجد سيلاً من الهجوم عن جهلك وعدم متابعتك لما يجري، فهناك إدارات أزمه موجودة في البلد، وأنك مغرض وما إلى هنالك من الهجوم المعلب، والذي لا يعلمه المهاجمون أن إدارة الأزمات ليست إدارات اعتيادية تمتلك موظفين ومكاتب، بل هي خطط وسيناريوهات تعامل مع الأزمات قبل وبعد وقوعها، وأنها تكون جاهزة للتعامل على مدار الأربع والعشرين ساعة في اليوم وعلى مدار العام، وأن أعضاءها يجب أن يكونوا من الكفاءات من كل القطاعات، ولهذا عندما تقع أزمه نجد المواطن العادي يطالب بتدخل الجيش للتعامل مع الأزمه وهذا ليس طبيعياً في معظم الأحوال والأزمات، حيث إن وجود الجيش في الكوارث الطبيعية والكوارث التي تهدد كيان الدولة، والأزمات التي تفوق قدرات القطاع المدني هو أمر مستساغ شعبياً وعلمياً، لكن وجوده وسط المواطنين في أزمات بسيطة يمكن للقطاع المدني حلها هو أمر يحتاج لشرح وتوضيح لما أصاب القطاع المدني من فساد.
مصر بلد مؤسسات، جملة كنا نسمعها كثيراً أيام الرئيس المخلوع حسني مبارك، ولكن على أرض الواقع المصريون لا يعرفون إلا شخصاً واحداً في الدولة وهو رئيس الجمهورية، يناشدونه إصلاح كل شيء في حياتهم، الطرق وطوابير العيش وطوابير البنزين وانقطاع الكهرباء، حتى ضاق بهم الحال من غياب دولة المؤسسات. وكان الاختبار الأكبر في أزمة زلزال 1992، وكارثة غرق العبارة السلام 98 في العام 2006، والذي غرقت فيهما مؤسسات الدولة.
لهذا بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني و30 يونيو/حزيران، تصور الناس أن دولة المؤسسات القديمة سيتم استبدالها بمؤسسات ودولة جديدة، ومع التعامل الجاد والحاد والمباشر مع كل الأزمات التي شهدتها مصر في السنوات الماضية، تحول التصور لانطباع جاد بأن هناك تغييراً بات يؤتي ثماره، وأن مؤسسات الدولة باتت قادرة على إدارة نفسها مستقلة عن المؤسسة العسكرية، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فبعد حديث الرئيس عن ميلاد جمهورية جديدة، أتت حادثة سفينة الحاويات في قناة السويس، وحادثة قطاري سوهاج، لتلقي بظلال قاتمة على قدرة القطاع المدني على إدارة أزماته بنفسه.
وهنا نتساءل ما الحل إذاً.. مدني أم عسكري لإدارة مؤسسات دولة جديدة؟!
إن الفرق بين المدني والعسكري في مصر هو القوة في إصدار القرار، وحجم الصلاحيات المتاحة لصانع القرار والخبرة العلمية والعملية، ولهذا إذا أعطيت الصلاحيات والقوة المساندة للقطاع المدني فإنه سيؤدي أداء جيداً، مع الأخذ في الاعتبار تنقيته من الفساد والمفسدين. فأقل وحدة محلية في مصر ستؤدي أداء مبهراً ولا تحتاج للدوله كثيراً إذا اعتبر رئيس وحدتها أن قراراته ستنفذ من خلال صلاحيات واسعة في نطاق عمله.
سيادة الرئيس، إن دولة المؤسسات في دولة جديدة، تستدعي أن يكون القطاع المدني مؤهلاً للقيادة، وقادراً على إدارة أزماته، ولا يعتمد على أن أخطاءه سيتم تداركها من خلال إدارات أزمات القوات المسلحة، يجب إنشاء إدارات أزمات احترافية في كل مؤسسات الدولة قبل فوات الأوان.
وإن تطوير الكوادر البشرية في القطاع المدني أمر لابد منه، إذا كنا نريد الوصول للمستقبل دون أخطاء كارثية تعوق التقدم نحوهوسط ما يجري من أحداث غير مستقرة في المنطقة.
انتهى الهمس…
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.