يحير المرء من برودة دم مجتمعاتنا وضعف تفاعلها مع مآسيها ومنطقها التبريري الغرائبي لواقعها وكذا من قابليتها الذاتية للتخدير، الشيء الذي يسهل حرفها عن حاجاتها الجوهرية وحقوقها الأصيلة المنتهكة، فحتى في الهبات الجماهيرية على ندرتها، كما في فترة الربيع العربي التي عرفت مداً جماهيرياً قوياً، فإنها لا تعدو كونها مثل الأحلام العابرة وقوس يفتح ويغلق سريعاً لتعود حليمة لعادتها القديمة ولتعود الشعوب إلى خضوعها وإلى وداعتها، حيث كان مغناطيس ثقافة الذل والإذعان يتغلب في كل مرة على مغناطيس الحرية والكرامة.
مشكلتنا باختصار تكمن في تطبيع مجتمعاتنا مع الإهانة وتطبعها بها في عملية برمجة طويلة امتدت لعقود بعد تأسيس دويلات عصرية ظاهرياً وظفت الإرث الاستبدادي القروني بالشكل الذي يخدمها وأخذت من العصرنة أسوأ ما فيها لخنق مواطنيها والتحكم في تفاصيل حياتهم العامة والخاصة كذلك، حيث لم تقتصر الدول الاستبدادية العربية على قهر مواطنيها سياسياً، فلضمان تغييب أي صوت يحاسب المسؤولين مهما علا أو تدنى شأنهم، فإن تأميم الفضاء السياسي لن يكون كافياً، فما دامت الكرامة متحققة في الميادين الأخرى فهي بمثابة قنبلة موقوتة بالنسبة لها.
لذلك فإن أولى أولويات الطغاة هي شطبها من القاموس المجتمعي، إذ إن الإنسان الكريم لا يمكن أن يقبل بالظلم وهو إن خاف مرة فسيتمرد عاجلاً أم آجلاً، لأن معدنه يأبى الظلم ويرفض الإذلال، أما الذليل فلا يعتقد أنه في وضع يستدعي التغيير، فمن فرط ما تم إذلاله تبلد حسه وتعايش مع الإهانة لدرجة أصبح يعتقد معها أنها هي الأصل في السلوك البشري، الشيء الذي جعل النسق الاستبدادي الرسمي الذي تدعمه الدولة بتشريعاتها يستفيد من وصاية المجتمع القهرية على أفراده بعد أن أخضعته حتى أضحى خادماً مطيعاً لها. وهكذا فإن الفرد يتعرض إلى ترويض ممنهج ويتعرض لسلسلة مكثفة من الإهانات تجعله كائناً محطماً.
فمنذ نشأته يتعاطى معه والداه على أنه شيء في ملكيتهما وليس كياناً مستقلاً هما مؤتمنان عليه وعلى رعايته وتربيته، فهما يفرغان فيه باعتباره الحلقة الأضعف في المجتمع كل عصبيتهما الناجمة عن عصارة تجربتيهما المليئة بالانكسارات وخيبات الأمل، كما يقومان بحشو دماغه بقيم الانبطاح والتخاذل والانتهازية حتى إن ما يتم تلقينه له يظل راسخاً في لا وعيه ومهما تعلم وحاول الخروج عن المألوف ما يلبث أن يعيد إنتاج سيرة الآباء والأجداد، مما يسهم في إدامة الخوف المَرَضِي من السلطة جيلاً بعد جيل.
أما المدرسة فتنخرط في عملية تنميط كبرى للأطفال اليافعين الذين تفرض عليهم مواصفات لا تُخَرِّجُ في المجمل إلا الخانعين، فلا مكان فيها لمن يقول لا، حيث يُعْمَدُ على تحطيم كبريائه في سن مبكرة، ثم يفرض عليه بعد تخرجه أن يمضي في رحلة بحث مضنية تريق ما تبقى من ماء وجهه من أجل تأمين حقه الدستوري في الشغل، مما يعرضه لسيل من الإهانات ممن هب ودب، حتى إذا ما وجد مبتغاه وظفر بفرصة عمل كان عليه أن يحسب خطواته جيداً كأنه يسير في حقل ألغام مخافة خرق أعراف البيروقراطية في القطاع العام أو التطاول على علاقة السيد والخادم في المشاريع الخاصة. والمؤسف أن محاسبته في كثير من الأحيان لا تتم على ضوء أدائه المهني، فقد يرحب بالمقصر المتملق على المتفاني في عمله إن لم يرض شبق مسؤوليه السلطوي.
المواطنون في مجتمعاتنا أينما أداروا وجوههم يصفعون وتمسح بكرامتهم الأرض، والدولة تتلذذ بإهانتهم في مديرياتها ومستشفياتها وباقي مصالحها، والغريب أن منهم من يتجاوز إذعانه مستوى الخوف ممن يملكون سلطة عليه إلى مستوى قبوله بتنازله عن كرامته حتى فيما يملك الاختيار فيه، فتجد صاحب محل تجاري يمطر زبنائه بوابل من الشتائم وهم ساكتون ولا يفكرون حتى في تأديبه على سلوكه النزق معهم بالبحث عن غيره رغم وفرة الخيارات أمامهم.
طبعاً الأمر لا يعم الجميع، فهناك دائماً من يتمرد على هذه القاعدة غير أنه فوق المتاعب التي سيلاقيها في ظل سطوة مؤسسات رسمية تهضم حقه الطبيعي في الحفاظ على الحد الأدنى من كرامته ينظر إليه محيطه نظرة سلبية، فيصوره على أنه يبحث عن المشاكل وينظر إليه على أنه شخص تعوزه المرونة وحسن التصرف في سياق يحتفي بالشخصية الحربائية المتلونة ويعتبرها نموذجاً مثالياً من نماذج النجاح في التواصل.
قضية الكرامة لا مرونة فيها، وأي مشروع مجتمعي لا يعلي منها ولا يضعها محور اهتمامه مصيره الترهل، كما أن أي كفاح ضد فساد السلطة واستبدادها إن لم يعمل بالتوازي مع تدافعه السياسي على خلق مقاومة مجتمعية ضد كل سلوك يخصم من كرامة الناس سيظل كفاحاً قاصراً محدود الأثر، فبمقدار وعيهم باسترداد كرامتهم وإن في أمورهم المعيشية الصغرى بمقدار ما سيتطلعون إلى التحرر الأكبر من الطغيان
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.