في افتتاح مشروع "بشاير الخير 2" لتطوير العشوائيات بمحافظة الإسكندرية في ديسمبر 2018، تحدث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في عن "الفلوس كأهم حاجة في الدنيا"، وهو يشرح رؤيته للمرافق والخدمات العامة بحسبة التكلفة والعائد المادي المباشرة ومنظومة تسعير شاملة تحدد العلاقة بين الحكومة القائمة على إدارة الدولة من جهة والمجتمع من جهة أخرى، ويقول نصاً: "بدل ما نصرف 10 مليار لتطوير السكة الحديد.. نحطهم في البنك.. وناخد مليار جنيه فوائد".
في الوقت الذي كان يرفض رأس النظام تطوير السكة الحديد التي يستخدمها السواد الأعظم من المصريين في تنقلاتهم بين المدن، شرع النظام المصري في تشييد مشروعات مترفة للإنفاق على عاصمة إدارية جديدة ومدن ساحلية عالمية. ويقوم بالإنفاق -بلا حساب- على المشروعات المرتبطة بهما كمونوريل العاصمة الجديدة وخط القطار السريع بين العين السخنة والعلمين في صفقة تتجاوز قيمتها 360 مليار جنيه ولن يستفيد منها سوى شركة سيمنز الألمانية وملاك القصور والشاليهات والشقق الفاخرة في تلك المدن، والذين لا يتعدون 1% من المصريين، ولا يفترض أنهم سيتعدون هذه النسبة بهذه السياسات التي تنتج وتكرس التفاوت طبقياً وجغرافياً.
لم تستفق مصر بعد من كارثة السفينة التي أغلقت قناة السويس أحد أهم الممرات الملاحية العالمية، وأحد أهم شرايين الاقتصاد المصري، إذ تدر سنوياً قرابة 5.5 مليار دولار في المتوسط. لكن أزمتها كشفت عن تكلس في الإدارة التي تتوارثها قيادات القوات البحرية كمكافأة نهاية خدمة ويعتبرون مداخيلها جزءاً من "عرق الجيش" وثمرة مجهوداته منذ أيام مبارك. وانبرى الإعلام المحلي في التعتيم والتعمية ثم الإشادة بجهود هيئة قناة السويس التي كشفت الصور المنقولة لنا عبر الأقمار الصناعية أنها متواضعة للغاية وتفتقر للكفاءة اللازمة والقدرة لإدارة أزمة بهذا الحجم. أزمة يفترض أن كل معطياتها متوقعة أو قابلة للتوقع هندسياً وفنياً في هيئة ينفق على إدارتها وكبار قياداتها مليارات الجنيهات سنوياً، ويتمتعون بمزايا معقولة وغير معقولة.
على كلٍّ، لم يدق أحد ناقوس الخطر في مصر، ولم نستفق من تلك الكارثة حتى فجعنا الأمس بمصاب تصادم قطاري سوهاج، واحدة من أكثر محافظات مصر اكتظاظاً بالسكان، ومحافظة يقبع أغلب سكانها تحت خط الفقر وتأتي في الترتيب الثاني على محافظات الجمهورية فيه، وفقاً لآخر الإحصاءات.
ومع ذلك لن تجد بها مركبة نقل عام واحدة تخدّم على زهاء ٥.٣ مليون نسمة وتترامى مراكزها وقراها طولياً على أكثر من ١٠٠ كم في شريط ضيق على النيل لا يكاد يتجاوز عرضه 10 كيلومترات. هنا، في سوهاج، الخدمات العامة من مستشفيات ومدارس وإسكان ونقل في حالة يرثى لها.
لم تمر ساعتين على الحادث الأليم حتى خرجت علينا وزارة النقل ببيان تحدد في أسباب الحادث، بينما لم تكن حتى كل جثث الضحايا وحالات الإصابة قد وصلت المستشفيات بعد. وبحسب البيان فإنه "أثناء مسير قطار ١٥٧ مميز الأقصر الإسكندرية بين محطتي المراغة وطهطا، تم فتح بلف الخطر لبعض العربات بمعرفة مجهولين، وعليه توقف القطار، في هذه الأثناء وفي تمام الساعة ١١:٤٢ تجاوز قطار ٢٠١١ مكيف أسوان القاهرة سيمافور ٧٠٩، واصطدم بمؤخرة آخر عربة بقطار ١٥٧، ما أدى إلى انقلاب عدد ٢ عربة من مؤخرة قطار ١٥٧ المتوقف على السكة وانقلاب جرار قطار ٢٠١١ وعربة القوى، ما أدى إلى وقوع عدد من الإصابات والوفيات".
لكن بعد البيان بأقل من ساعة أصدرت النيابة العامة المصرية بياناً حذرت فيه من تداول وإصدار بيانات عن الحادث و"تهيب بكافة الجهات الالتزام بعدم إصدار أية بيانات أو تصريحات عن أسباب وقوع حادث تصادم القطارين بسوهاج، إذ تتولى النيابة العامة التحقيقات لكشف حقيقة أسباب وقوعه". تتحدث روايات أخرى عن أن القطار لم يكن متوقفاً، وإنما كان يسير ببطء وفقاً لما هو واضح من أحد المقاطع المصورة التي صورتها كاميرا أحد المحال التجارية القريبة من موقع الحادث، وإن صحت هذه الرواية فإن رواية وزارة النقل تعد بمثابة تبرئة استباقية للفريق كامل الوزير.
وحتى إذا اعتمدنا بيان وزارة النقل فإذا كان أولئك المجهولون قد قاموا بهذا العبث بمكونات القطار لإيقافه، وهي عادة شبه متكررة ومعروفة لدى ركاب قطارات الدرجة الثانية المميزة، حيث يحاول بعض الباعة وأحياناً المجندون والمواطنون إيقاف القطار عند الأماكن التي يريدون النزول فيها، فإن أولئك الذين أنفقوا عشرات المليارات سواء على تشييد قصور رئاسية جديدة أو مونوريل العاصمة الإدارية الجديدة وهم بصدد إنفاق مئات المليارات على القطار السريع من العين السخنة إلى العلمين الجديدة، هؤلاء هم المسؤولون عن تلك الحوادث لرفضهم تطوير منظومة السكك الحديدية وعربات النقل والقطارات في البلاد، بالأحرى رفضوا الاستثمار في المصريين وأرواحهم لأنهم رأوه استثماراً غير مُجدٍ، يجري كل ذلك بينما يشيد "الإعلام الرديف" بأولئك المسؤولين يومياً وبلا توقف.
لماذا تتكرر الحوادث في مصر؟
والتساؤل المُلحّ الآن: ألم يكن من الممكن ادخار مبلغ بسيط من كل تلك المليارات لتزويد كافة القطارات بكاميرات مراقبة في كل عرباتها، وتصب في غرفة عمليات متطورة بحيث تستطيع بسهولة تحديد والتعرف على هؤلاء المجهولين ومحاسبتهم حتى لا تتكرر مثل تلك الحوادث، ناهيك عن تقليل حوادث السرقة والتحرش والشجارات بين الركاب وبعضهم وبينهم وبين موظفي الهيئة، وتقليل هذه الحوادث المتكررة بتوفير الوقت والجهد لإخبار السائقين ومنظمي الحركة بالتطورات الآنية على متن القطارات والخطوط؟
ألم يتجاوز العالم نظم الإشارة المهترئة في مصر وتحويلها لإشارات مدارة عبر أنظمة الـGPS وآليات الذكاء الصناعي؟
بينما يكاد العالم يتجاوز فكرة قيادة البشر للمركبات والتحول لنظم المركبات بدون تدخل بشري فإننا نقبع خلف عمليات تطوير فقط للأبنية والمحطات دون تحديث حقيقي لإدارة تلك الأبنية والموارد.
وإذا كان وزير النقل السابق قد أقيل جراء حادث حريق قطار رمسيس الأليم منذ حوالي عامين في السابع والعشرين من فبراير/شباط ٢٠١٩، الذي راح ضحيته قرابة ٢٨ شخصاً و٥٠ مصاباً، وعلى إثره تولى الفريق كامل الوزير مسؤولية وزارة النقل، فما مصير الفريق كامل بعد تجاوز الحصيلة الأولية لضحايا حادث قطاري سوهاج ضحايا حريق رمسيس؟
ورغم التصرف السريع الذي أبداه النظام في أزمة القطار، فإن سوءات سوء الإدارة وغياب التخصص وانعدام الكفاءة ما زالت بادية للعيان، إذ تم تشكيل لجنة تحقيق تقوم عليها ثلاث جهات أساسية وهي: الرقابة الإدارية والهيئة الهندسية والكلية الفنية العسكرية، وتلحق بها كلية هندسة كما لو كانت مكملة لعمل تلك الهيئات.
لكن لا عجب فهنا مصر، حيث لا يعترف مسؤول علا مقامه أو انخفض بسوء الإدارة في المطلق، ناهيك عن أن يتجرأ أحدهم ويقول بسوء إدارة العسكريين وطرقهم المتكلسة في الإدارة والتشغيل.
كم كارثة أو مصيبة نحتاج حتى نعترف بأن الكارثة الأكبر في هذا البلد هي الإدارة الفاشلة وأن ماكينة هذه الدولة لا تُصعد إلا الأكثر غباءً وفساداً؟
يعتصر قلب المرء ألماً وحزناً على حال الدولة المصرية وسيرها نحو الهاوية، حتى حوادثنا وكوارثنا لم تعد أحداثاً أو كوارث بل وقائع معتادة وشبه موسمية. ولا تقدم يذكر في التعامل معها، رغم تكرارها، رغم أن لمعظمها حلولاً وأن موارد ومخصصات ونفقات باهظة تذهب في الاتجاهات الخطأ، وتحت تصرف إدارة غير كفؤة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.