يذهب عدد من متتبعي المشهد السياسي بالمغرب إلى أن المجد السياسي الذي وصله حزب العدالة والتنمية في العقد الماضي في انتخابات متتالية رغم تحديات تدبير الشأن العام، يعود فيه كبير الفضل لرئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، الذي تفرد بمنطق خاص عن خصومه ورفاقه في الحزب في تدبير الصراع السياسي، وقد برزت الهوة بشكل أكبر مع خلفه على رأس الحزب والحكومة سعد الدين العثماني، الذي لا يرقى أسلوبه في إدارة المرحلة السياسية لمستوى يجعله مؤثراً، بما يحافظ على تموقع الحزب في المشهد، وأحد المؤثرات في المجال السياسي التي كان يتميز بها بنكيران قدرته الخطابية بلغة تصل لمختلف الشرائح، ولو كان صراعاً كلامياً، لأن السياسة فن الكلام حينما يتطلب الأمر ذلك وتحديد الجهات المعنية بالكلام، أي تحديد الخصوم -للحشد والمتابعة- وفن الصمت في لحظات معينة، وهي مناورات تغيب عن العثماني الذي ينزع إلى منطق التدبير مع القليل من السياسة. فاختلاف المنطق الذي جربه حزب العدالة والتنمية في مرحلة مضت في سياق المعارضة نظراً لطبيعة العلاقة مع السلطة، قد قدم له خدمة كبيرة لحمايته من الانقسام.
فهل يكون اختلاف الرؤى السياسية عاملاً في الانقسام الحاد على مستوى المواقف وبروز الخلاف الحاد؟ أم إن التوترات الحاصلة داخل الحزب القائد للائتلاف الحكومي تعود أسبابها إلى معطيات أخرى؟
كان الإعفاء الذي تعرض له عبد الإله بنكيران من تشكيل الحكومة سنة 2016، لحظة مناسبة أخطأ فيها حزب العدالة والتنمية الموقف الذي يحفظ من خلاله تماسكه وقوته في المشهد السياسي، بحيث ينتصر فيها الحزب المعني للديمقراطية والإرادة العامة التي بوأته الصدارة، سيما أن التجارب السابقة لنسق السلطة/المخزن في إضعاف القوى السياسية وإشغالها بذاتها ومصالح نخبها المتهافتة، تقدم الكثير من الدروس في ميكانيزمات الإضعاف والتفكيك في أفق التهميش. نشير لذلك، لأن أصل المشكل الراهن الذي برز إلى السطح لا يتعلق فقط بما هو متداول، إنما بفعل تراكمات امتدت من سنة 2016 لتتفجر على أرضية قوانين وقضايا هي جزئية وليست السبب المباشر في الخلاف.
اختار حزب العدالة والتنمية الانحناء للعاصفة حينها على حساب مخرجات الاختيار الديمقراطي، والذي تمثل في قبوله وضع كرة اللهب التي رمتها السلطوية في حضنه مما جعل أزماته الداخلية تستفحل، ولم يكن تعيين العثماني رئيساً للحكومة إلا رغبة في طي ولاية سابقة كان فيها الصراع متبايناً، وإنهاء مرحلة غلب عليها الحديث في السياسة والفرز السياسي رغم ما يمكن أن يقدم لها من نقد، لتعوض بمنطق مختلف ورهانات مغايرة انعكست على المشهد برمته، ويمكن أن نقول إن عنوانها البارز فيما يظهر الآن من تراجعات سياسية وحقوقية عن دستور 2011.
وفي علاقة ذلك بحزب العدالة والتنمية والحكومة التي تكلف بإنشائها والمسارات التي واكبت تشكيل الحكومة حينها، قدم سعد الدين العثماني للمجلس الوطني الذي أعقب الإعفاء متحدثاً عن رسالة ملكية، بأنه يود الاشتغال مع الحزب، كان ذلك بمثابة المسكن الذي جعل برلمان الحزب يحيد عن اتخاذ موقف صريح، وينهج نهج الأمانة العامة للحزب التي اتخذ أغلب أعضائها التعاطي الإيجابي مع البلاغ الملكي، تجنباً للرفض، الذي يعني الصدام مع الملكية في الثقافة السياسية لأغلب قادة العدالة والتنمية، كما تكلف الرميد حسب حديث الصالونات بإيصال بقية الرسائل في حالة رفض الانصياع، والتي تهم تحجيم الهيئات والفعاليات التي لها صلة به.
اعتزل بنكيران في بيته مرحلياً عقب الإعفاء، وكلف العثماني الذي لم يقد المرحلة سياسياً وشعبياً بتشكيل الحكومة، بل إنه في نظر بنكيران أخفق منذ تشكيل الحكومة، حيث لم ينعكس حجم الحزب والمقاعد (125) التي تحصل عليها في التفاوض السياسي الذي لم يحافظ على شروطه كما كان متفقاً عليها في الرباعي الذي كان متحلقاً بنكيران، وكان ضمنه إلى جانب الرميد والداودي الذين يشملهم التوتر الحالي، مما أخرج حكومة هشة تولى فيها البيجيدي قطاعات هامشية، مقابل حصول القوى الحزبية المرتبطة بالسلطوية على القطاعات الاستراتيجية.
كانت النتائج المترتبة عن النهج الذي تم اختياره منذ 2016، إضعاف "الجبهة" التي كان بنكيران قام بصياغتها وسط المشهد السياسي والإعلامي والمدني على قاعدة مواجهة ما اصطلح عليه بالتحكم، وإذا أردنا الإشارة لذلك، فإن حلفاء البيجيدي في السابق مثل التقدم والاشتراكية الذي شكل معه صلة وثيقة قبل الانتخابات حينها توجت باتفاق معلن، خرج من الحكومة في عهد العثماني، والأمر نفسه بالنسبة للإعلاميين والكتاب وصناع الرأي السياسي، حيث انسحب بعضهم وطال لفيف منهم السجن، بعد عودة الهاجس الأمني على حساب السياسي. بل إن المنطق الراهن في تدبير المرحلة تغيب عنها الرهانات السياسية للدولة والأحزاب، مما يعكس توجساً من السياسة والديمقراطية في الجوهر، وهو ما يتجلى في "تتفيه" المشهد السياسي بمختلف الأساليب والآليات ربما آخرها ما سمي بالقاسم الانتخابي، على حساب المطالب اجتماعية وسياسية وحقوقية المتعلقة بالعدالة والحريات والكرامة.
لا يمكن فصل جزء مما يجري حالياً لحزب العدالة والتنمية والخلاف الحاد بين قيادته الحالية وزعيمه السابق عبدالإله بنكيران عن معطيين اثنين:
الأول، وهو ما أشرنا له بخصوص المرحلة التي أعقبت الإعفاء سنة 2016، أي منطق تدبير الصراع السياسي مع العثماني ولفيف قيادة الحزب الحالية من الوزراء، حيث يمكن أن نستكشف من خلال منظور عبدالإله بنكيران في ممارسة السياسة، أنها راكمت جملة من الأخطاء السياسية أضرت بمكانة الحزب، كما أنها نكثت بجملة من الالتزامات في مدافعة السلطوية، ذلك أن الحزب الذي ظل يدافع عن التعريب، تم تمرير القانون الإطار الذي يضر بمكانة العربية في عهده، بالإضافة إلى الحماسة الزائدة التي أبداها وزيرا من الوزراء المحسوبين عليه هو عبدالعزيز الرباح لمسألة التطبيع وإمكانية زيارته إسرائيل إذا تطلب منه الأمر ذلك.
وهي مفارقة كبرى حسب بنكيران الذي لم يفوت اللحظة لتقريع الوزير الذي ينتمي لحزبه، بل قام بتذكيره بالمنطلقات والمبادئ التي بوأت الوزير وغيره من نخب الحزب مكانة في المشهد السياسي. ثم أخيراً تمرير القانون الذي يخص نبتة القنب الهندي لأغراض طبية، والذي كان يرفضه الحزب من منطلق مبدئي، بل إن الحزب سنة 2014 رفض مقترحاً كان قد تقدم به حزب الاستقلال بخصوص معالجة الموضوع، وهو يفضل القانون الحالي الذي يحمل في طياته الكثير من العيوب، وإن حمل في ظاهره الاستعمالات الطبية والعلاجية للقنب الهندي.
ليست المسألة هنا في تفاصيل القوانين، أو طبيعة التصريحات وحسب، إنما يود عبدالإله بنكيران تسجيل "نقطة نظام" واعتراض علني على المنطق الذي يدبر به العثماني ورفاقه من الحزب في الحكومة بعض تمظهرات الصراع السياسي، ذلك أن الحزب سيجد نفسه عارياً بسبب بعض القضايا التي شكلت محور خطاب، مما يؤدي إلى تبديد رصيده السياسي الذي راكمه، بل إن الحزب في هذا الرأي يفقد استقلاليته بالتدريج ويتحول إلى أداة في تمرير مجموعة من الأشياء التي كان يواجهه بنكيران في العلن إن فشل في إيقافها في المؤسسات، وبتتبع السلوك السياسي لبنكيران، نجده قد مرر جملة من القرارات المكلفة سياسياً، لكن تمريرها كاين يمر مصحوباً بالصخب والجدل من خلال ممارسته السلطة والمعارضة في الآن ذاته، وهو ما لا يتقنه العثماني ولا يلجأ إليه في إدارة الصراع السياسي.
إن صمت العثماني وإخفاقه في إدارة الصراع في نظر بنكيران قد يؤدي بالبيجيدي إلى فقد هويته التي بنى عليها مجده السياسي. فالاختلاف إذن عميق حول منظورين لإدارة العلاقة مع السلطة والمجتمع، وقد يكون الإفصاح عن ذلك مقدمة لخلق نقاش داخل البيجيدي يود بنكيران المحب للواجهة والزعامة وخلق الفرجة السياسية، أن يكون القائد والموجه له، بغاية إنقاذ الحزب من السقوط بفعل الإضعاف الذي تمارسه السلطوية مع كل الأحزاب التي مرت بالشهد منذ الاستقلال، بل هو فن خاص بالنسق السياسي المغربي/المخزن كان يدبر به العلاقة مع القبائل قبل الاستعمار.
أما المعطى الثاني: الذي يكشفه جزء من الاختلاف الحالي، فهو كامن في الثقافة السياسية لحزب العدالة والتنمية، ومنه في النسق السياسي المغربي، فأزمة الأحزاب المغربية من صميم أزمة بنية النظام السياسي المغربي، وهو النزعة السلطانية في الثقافة السياسية التي توجه التفكير والممارسة السياسية.
فرغم المظهر الحديث للمؤسسات والفعل السياسي فإن الروح والثقافة التي يتشبه الخطاب والسلوك السياسي عتيقة جداً، وهي بمقدار ما تحافظ على الاستقرار أحياناً، فإنها تؤدي دور الكابح لأي انتقال ديمقراطي، وتجعل الزمن السياسي يتحرك ببطء، وفي اللحظة الراهنة تبرز الفروقات بين رهانات الوعي الجديد بالحرية والديمقراطية والكرامة وميكانيزمات بنية السلطة/المخزن، والثقافة السياسية للأحزاب التي تشكلت في هذا السياق، أي ثقافة تمتح من جوهر سلطاني يغفل تراكماً كبيراً من تجديد الفكر السياسي الذي راكمته الحركة الدستورية، ويهمنا بالأساس الفكر الدستوري في المغرب منذ ما قبل الاستقلال التي كانت تسعى لتحويل النظام السياسي إلى ملكية دستورية في سياق هبة الأفكار الدستورية مع رياح الحداثة، ثم مع الحركة الوطنية وملامح التعاقد غير المكتوب بينها وبين محمد الخامس حول دمقرطة الدولة والنظام السياسي، وهو ما تفيده كتابات تلك المرحلة.
لكن كيف يعمل هذا النمط من التفكير السياسي التقليدي معيقاً لحزب العدالة والتنمية في أزمته الراهنة التي قد تستفحل أكثر؟
يمثل الاندراج في الثقافة السلطانية التي تشكل نسق الحكم والسلطة في المغرب، ابتعاداً عن روح العصر من جهة، ومن ثم عن الوعي السياسي المعاصر الذي يشكل ثقافة شرائح واسعة من المجتمع التي تطل على العالم الحديث، وتلك مشكلة تهم كل الثقافة السياسية بالمغرب والميكانيزمات التي نسجت علاقة نسق السلطة بمختلف القوى، فعدم التحديث يجعل من التناسب بين تنامي الوعي المجتمعي وتعاطي الدولة والقوى السياسية مع القضايا المجتمعية غير ممكن.
لعل تحديث الثقافة السياسية بالانتقال من النزعة السلطانية إلى المنطق الحديث في التفكير في السياسة وممارستها هو ما يجعل الدولة والقوى السياسية والمجتمعية المختلفة يكسبون رهان المستقبل، لكن الحياد عن المواطنة والديمقراطية، وسعي القوى السياسية وفي مقدمتها العدالة والتنمية لكسب رضا القصر وخدمة السلطة ولو من موقع البطانة الصالحة عوض التعاقد معها على أساس مجتمعي وشعبي تشكل المسألة جوهره وأساسه، يجعل هذا الحزب أو ذاك، بقيادة بنكيران أو العثماني أو غيرهما لدى مختلف الأطراف التي قد تبرز مستقبلاً، في موقع يجعلها تنهار تدريجياً، نظراً للفارق في الخبرة السياسية بين تلك القوى والنظام السياسي الذي يحمل معه تاريخاً من تدبير العلائق من القبيلة إلى الحزب، ومن الدولة السلطانية إلى الدولة التي تمزج في بنيتها بين العتيق والحديث. لذلك فالاندراج في ثقافة العصر السياسية هو ضرورة لكسب رهان الحاضر والمستقبل على مستوى المجتمع.
ختاما.. يمكن اعتبار اللحظة التي يمر منها حزب العدالة والتنمية من أشد اللحظات تعقيداً وارتباكاً، قد لا تقوم الأساليب السابقة بإيجاد مسالك للخروج منها، نظراً للتموقع الذي يوجد فيه الحزب المعني، وتغير رهانات نخبته من الأعلى إلى أدنى الهرم، حيث تشكل السلطة وما يرافقها عنصر جذب للإنسان، وهي ما يبدو أنها أصبحت مدخلاً من طرف السلطة للإيقاع بين الأطراف المختلفة.
ثم من جانب آخر غياب عقلنة الاختلاف السياسي وفق خيارات واضحة، الاستمرار في السلطة أو المعارضة، مما يجعل استمرار التوتر عنصر إضعاف للحزب بعد أن أضعفه المسار السياسي المليء بالخيارات المناقضة لأطروحاته السياسية التي طالما عبر عنها، فالانقسام قد يتم تجنبه بين القيادة الراهنة، لكن بقاء حزب العدالة والتنمية في السلطة بالرهانات الراهنة والثقافة السياسية التقليدية يعني اندراجه في أرشيف التاريخ السياسي.. هذا عن الخيار الذاتي.. أما إرادة المجتمع فقد يكون لها أكثر حدية من العملية السياسية برمتها إذا استمر المشهد السياسي على ما هو عليه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.