"أحِن إلى خبز أمي، وقهوة أمي"، هكذا قال محمود درويش جملته السهلة، بقصيدته البسيطة البليغة جداً، أقف أمام الأبيات وأسأله: وما المعجزة يا محمود في أن تصنع الأم خبزاً، وما المعجزة في أن تعدّ فنجاناً من القهوة؟ الخبز يصنعه الفرّان كل صباح، والقهوة تعدّها ماكينة القهوة في دقيقة. لن تصنع الأم الخبز من السحاب بدلاً من العجين، ولن تعد القهوة على ضوء القمر بدلاً من نار "السبرتاية"، ولن تضيف إليها ماءً من الجنة بدلاً من المياه العادية، فما المعجزة يا محمود؟
أعود إلى أمي، فأجدني مثل محمود، آكل بدلاً من الخبز فينو في بلاد بعيدة، وأشرب بدلاً من شايها مشروباتٍ بشيء وشويّات، لكنني أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي، أحنّ إلى كل شيء من صنع أمي، أحن إلى أي شيء يسبق كلمة أمي، وتلك الياء التي في نهاية الطلب، ياء الملكية، "أمي".
لم يصف لنا الرجل شيئاً خارقاً، ولم يحكِ لنا عن وصفةٍ لا تجيدها إلا أمه، فكل الأمهات يخبزن، وكل الأمهات يستطعن أن يعددن رغيف خبزٍ لأبنائهن، وهنا التعقيد الذي لا يُفهم، وهنا سر العلاقة، وهنا المعجزة لا تكمن في المصنوع وإنما الصانع، ليست في الطبخة وإنما من تطهوها، ليست في رائحة الطعام وإنما في نفَس من تقف أمامه.
المعجزة في ذلك الشيء المميز الذي يفرَق بين أكلةٍ وأخرى، المواصفات واحدة، والمقادير ثابتة، وكل خطوةٍ تشبه مثيلتها في البيت المجاور، لكن بالنسبة لكل فردٍ في كل بيتٍ لن يكون الطعام نفسه من جميع البيوت غنىً له عن طعام أمه، ولن يماثله، وإن فاقه إتقاناً بالنسبة للجنة تحكيم الأطعمة.
اشتاق محمود درويش إلى أمه، وأشتاق أنا إلى أمي من خلال أبياته، وأحِنّ إلى خبز أمي أنا وقهوة أمي أنا، ولن تغنينَي عن ذلك قهوة أم محمود درويش حتى، هنا الفكرة يا سادة، هنا الأسطورة الخالدة، هنا ذلك الشيء المقدس في ذلك النفس صاحب السرّ الباتع، هنا الأم تصنع أي شيء وكل شيء، بلا اختراع ولا ابتكار، لا تعجن العجينة وهي تهز إليها بجذع النخلة، فأمي ليست ستّنا مريم، ولا تعد الشاي وهي تتلقى الوحي، فأمي ليست نبيّة، وإنما تعد كل ما تعده وهي "أمي"، ولا شيء أكثر، ولو كانت في أي لحظة تحاول ألا تكون هي، فإن ما سيخرج من يدها لن يكون بذلك المذاق المختلف.
الحكاية ببساطة أنه السر البسيط المعقد، السهل الممتنع، أنني أريد شيئاً عادياً جداً، بسيطاً جداً، ساذجاً جداً، تافهاً جداً، لكنه من إنسانةٍ معينة، لها عينان لا تشبهان سواهما، ولها شكل وهيئة أحفظهما، ولها نفَس يجعل من أي شايٍ "شاي أمي"، ويصنع من أي عجينٍ بين يديها "خبز أمي".
وأتخيل ولداً من أبناء السيدة التي كانت تطهو الحجارة بدلاً من اللحم لتخدع أبناءها الجوعى حتى يناموا، حين مر بها أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب فأتى لها بالقمح والشعير، أتخيل الولد، لو كانت قصيدة محمود درويش وُلدت قبله، يقول في صباح اليوم التالي: "أحن إلى حصى أمي، وحجارة أمي، وخدعة أمي".
في غربتي، أرى رجالاً تخرّ دموعهم شلالات تغرق مطارات البلاد، ويصيرون أطفالاً جداً، في الشوق لأمهاتهن، وأرى رجالاً كباراً، بشوارب ولحى بيضاء، وبشعورٍ علاها الشيب، يبكون أكثر من الأطفال، تُبكيهم كلمة عن الأم، وترهقهم أغنية في الشوق لها، ويبكيهم مشاهد لرجالٍ آخرين مغتربين أمثالهم، التقوا بأمهاتهم بعد سنواتٍ من الشوق.
أرى دموع الرجال فيضانات، أمام فيديو واحدٍ لصديقٍ يحضن أمه في المطار، سيدي القارئ، الآن أبكي، وأكمل الكتابة، أرى قلوباً تنخلع من الصدور، وألسنةً تنعقد في الأفواه، وحناجر تتعطل في الحلوق، وأرواحاً تكاد تفارق الأجساد، في شوقٍ مريرٍ، وغصة ثقيلة، وتعَب كبير كبير كبير، داخل إنسانٍ مبعَد، يفارق حضنا وُلد فيه، ولا يجد إليه سبيلاً. وأتخيلني صاعداً للأعلى، أتسلل بعيني إلى هذه البيوت الغريبة في بلاد غريبة، فأرى وجوهاً باسمةً، وأشاهد خلفها الشخص نفسه، خلف وجهه المقنَّع يبكي، ينتحب، وفي قلبه وجعٌ مكتوم، وشوق مكلوم، وجمرةٌ مشتعلةٌ لا تفارقه، وحنينٌ لا يراوح كبدَه.
وكذلك كنتُ أرى أبي، أراه في كل حينٍ أباً كاملاً بأدوار الأبوة، رجلاً قوياً في تمام الرُّشد، إلا حين يلتقي بأمه نهاية كل يوم، حين يضع رأسه في حجرها وهو فوق الأربعين عاماً، تخيل أن تضع رأسك في حجر أمك كل يوم لأربعين سنة! حينها فقط كنتُ أراه طفلاً أصغر مني، كنتُ أخجل قطع هذه اللحظة بندائي الكاذب "بابا"، أي بابا ذلك يا ولد! الآن هذا طفلٌ أصغر منك، نادِه باسمِه حتى إن أردت، ولن يعارض.
وأعود أسأل درويش: يا رجل كيف استطعت أن تصف العلاقة بهذه السهولة وتلك الصعوبة؟ كيف تمكنت من تلخيص كل ما نُدندنه كل يوم؟ كيف اختصرتَ أشواقنا التي تخرج مبتذلة من حجمها الحقيقي؟ كيف استطعت هذه المرة أن تشنق المبالغات التي نقولها في محاولاتٍ بائسة للوصف الوافي، بحقائق ليست مبتذلة، بسيطة وبليغة في الآن ذاته.
أشتاق، ويجرحني الشوق، وتدميني مشاهدة صديق يعانق أمه بعد غياب، أشعر بقلبه في هذه اللحظة، يتردد صداه في جنبات صدري، يخفق بقوة، ينقبض وينبسط، يكاد ينخلع، تحاول أمه الشد عليه في حضنها فتثبته بصدره أكثر، وأشتاق أنا، ويكاد قلبي ينخلع، وتود أمي من بعد بحارٍ وبلادٍ وحدود، أن ترسل سلاماتٍ تُلطّف صدري وتبرد ناره المتأججة، لكنها على كل حالٍ لن ترده إلا بحضنها نفسه، وأعود أتذكر المشهد ولا يفارق مخيلتي، أم تائهة تبحث عن فلذة كبدها، وولد يرى أمه ولا يطيق شدة اللحظة، يخشى أن يسقط قبل أن يراها، ويخشى أن تسقط هي حين تراه، ويكون ما يكون، ويستسلم الأبطال لحبكة الراوي، ويلتقيان، فلا تسمع إلا صمتاً.
وأشتاق، ويحاصرني الشوق، وأهرب من صوتها، ومن رؤيتها عبر الهاتف، لأنني أكره حقيقة أن علاقة ابنٍ بأمه تصبح مجرد "سنترال"، تصبح عبر الأقمار الصناعية، وأنا لا أريد إلا قمراً واحداً طبيعياً، بلا مسافات، ولا اتصالات، لأن مصدر الاتصال المرسِل، ومصبّ الاتصال المستقبل، الآن الآن في مكانٍ واحد، لا يفصلهما حدود ولا تفرقهما بلدان.
وأنا وإن كنتُ أسمع صوت أمي على كرهي للاتصال، فربما وأنت تقرأ هذا الآن تتمنى ولو مجرد اتصال، لأن هذا لم يعد متاحاً حتى بالنسبة لك، لأسباب كثيرة، قد يكون فيها الموت، أو لعل الأم تقرأ هذا وتتمنى من ابنها اتصالا، لكن تمنعه الأسوار، فهُنا تنعقد الأسئلة والأجوبة، وتخرس السطور، ولا تقدر كلماتي على صوغ عباراتك، اعذرني سيدي القارئ، هذا شيء لا يعبر عنه شاعر ولا كاتب ولا متحدث، وإنما الصمتُ سيكون أبلغ منها جميعاً، وهو ذروة الفصاحة في هذه الحالة.
وأقول "أمّي"، وأعجب لذلك الحنين، والإعجاز اللفظي في الكلمة، كيف لحرفين أن يخلقا كل هذا الشوق، كيف لحركتين صنع هذا الأنين المكتوم؟ "أُم"، ضمة فسكون، الملخص البليغ الكامن في الكلمة نفسها. ثم إذا تركنا الكلمة على استقامتها، فتكون "أمي"، فأنت من الضمة الأولى ثم السكون، على موعدٍ مع شدةٍ لذلك الحضن، كأن في الشدة ذراعين يحكمان ضمك، ثم ياء المدّ التي فيها خضوعٌ لتلك السيدة، وخفض جناح، وانكسار جميل.
وكأن الكلمة تعاندني، تذكرني، كل نطقٍ بها، بما تحمله داخلها، كل الأشياء العظيمة خُلقت من حرفين، الحب من حرفين، والأم من حرفين، وأن بين حرفٍ وحرفٍ لا يسعني ثمانية وعشرون حرفاً لأصف شيئاً يتعلق بالحرفين، لا وصف الحرفين نفسهما حتى.
وأفكر، وأقول، صحيح أن العالم على تطوره، والعِلم على اختراعاته، لم يبتكر لنا آلةً تعيد لنا الزمان الماضي، وترجع بنا إلى عمرنا الفائت، لكن الله خلق لنا آلةً بالوظيفة نفسها، آلة من لحمٍ ودمٍ، وحدها لها القدرة على أن تختزل أعمارنا، وأن تعيدنا إلى أي زمنٍ شئنا. وكنتُ أنظر وأنا صغير إلى خالي ينادي جدتي "ماما"، وأقول بيني وبين نفسي "إيه الهيافة دي؟"، لكنني الآن كبرتُ، وأصبحت في عمر خالي الذي كان حينها، وما زلتُ أقول "ماما" بالدلع نفسه، وبالدلال نفسه، وبالطفولة نفسها. مَن الذي يجرؤ على أن يكبر على أمه؟ تأدّب يا عزيزي الطفل، ولو كنتَ تقرأ هذا الآن وعمرك سبعون سنة.
نهايةً أعود إلى حيث بدأت، لأشكر درويش الذي أراد أن يقول نيابةً عنا جميعاً: "أحِن إلى كل شيء عادي جداً، يتحول إلى شيء خارق جداً؛ لأنه من صُنع أمي!".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.