جرت أحداث هذه القصة في عام 2179 ميلادي .. وأي تشابه في أسماء الشخصيات أو الظروف أو الكواكب هو محض صدفة كونية غير مقصودة على الإطلاق.. لذلك اقتضى التنويه!
"تحسين" شاب فطِن.. تخرج في الجامعة.. عمل في وظيفة محدودة الدخل.. تزوج ابنة الجيران التي طالما أحب.. وأنجب منها طفلهما الرضيع .. أما "إحسان" شاب فهمان .. هو شقيق تحسين التوأم.. تخرج في ذات الجامعة ودرس ذات الاختصاص.. عمل مع أخيه تحسين في ذات الشركة أيضاً في وظيفةٍ محدودة الدخل.. وتزوج ابنة الجيران التي طالما أحب.. نعم تزوج أخت زوجة تحسين.. وأنجب منها طفلهما الرضيع.. أصغر من ابن تحسين ببضعة أيام.. حتى ذلك الحين كانت قصة التوأم تحسين وإحسان متطابقة إلى حد مذهل.
وفجأة بدأت تعصف بكوكب الأرض أزمات سياسية طاحنة اندلعت على إثرها حروبٌ كبرى وانهار الاقتصاد وانعدم الأمان وانقلبت حياة التوأم المستقرة رأساً على عقب. حينها اتفق الاثنان على استحالة العيش على كوكب الأرض وقررا الهجرة.. ولكن اختلفا على وجهتهما الجديدة!
بعد تفكيرٍ عميق ودراسة مستفيضة قرر تحسين الهجرة إلى كوكب "زحل".. ذاك الكوكب الثري المليء بالكنوز والثروات.. تحيط به هالة الفخامة الجذابة كأنها تاجُ ملكي براق.. ولأن تحسين شاب فطِن.. فقد فضل زحل على سائر الكواكب في المجموعة الشمسية؛ لأن أهله يتحدثون ذات اللغة الأرضية التي يتقنها ويشتركون مع أهل الأرض بثقافتهم وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم، الأمر الذي سيخفف عنه وطأة غربته الفضائية ويذلل أمامه عقبات الاندماج مع مجتمع زحل المخملي، وما هي إلا فترة زمنية قصيرة حتى يصبح "زحلياً" بامتياز وتتدفق عليه الأموال في هذا الكوكب المعطاء وهو مستمع مع عائلته الصغيرة بمناخه المعتدل وأجوائه الدافئة.
في المقابل، أصر إحسان على الهجرة إلى كوكب "المريخ"، بالرغم من علمه المسبق بشتائه القارس وعواصفه الكونية، ناهيك عن لغة أهله العجيبة المعقدة وثقافتهم المختلفة تماماً عن أهل الأرض وقيمهم الجديدة وعاداتهم غير المألوفة وتقاليدهم الغريبة، بالرغم من أن إحسان شاب فهمان فقد بدا لتحسين باختياره هذا أنه لا يمت للفهم بصلة، فإحسان وعائلته لن يتمكنوا أبداً من الاندماج مع هذا المجتمع المريخي الجاف ولن يستطيعوا التكيف مع ظروف العيش الصعبة على هذا الكوكب.
افترق التوأمان، تحسين وإحسان؛ تحسين إلى زحل وإحسان إلى المريخ، كل منهما مفعمٌ بالآمال، تقوده الأحلام لغدٍ أفضل، لبدايةٍ جديدة، ونسيج الطموحات يحيك لهما بساطاً بديعاً في الكون الوسيع، تعانق الأخوان عناق الوداع وذرفا دموع لوعة الفراق، وتواعدا على اللقاء في كوكبهما الحبيب، كوكب الأرض، بعد عشر سنوات ضوئية بالتمام والكمال.
حطت مركبة تحسين على أرض زحل، بعد أن أسرت لبه هالة الفخامة المحيطة بالكوكب وهو يتأملها عن قرب خلال الهبوط، لم يستغرق تحسين وقتاً طويلاً ليفهم الكوكب وليبحث عن وظيفة ويباشر العمل بالرغم من أنه شعر بالقليل من خيبة الأمل؛ لأن أهل زحل لم يكونوا مضيافين أو مرحبين بالقدر المنتظر منهم.. فمهما مضى عليه من الوقت كان يشعر بأن "الزحليين" يعاملونه بفوقية وبأنه من كوكب آخر أقل شأناً من كوكبهم، وبأنه من عرقٍ أدنى من عرقهم، وبأن دماءه الحمراء ستحول دوماً دون انتمائه لدماء "الزحليين" الزرقاء.. فلم يكن يتساوى معهم في الحقوق والمزايا.
لم يكن يسمح لأولاده بالدراسة مع أولاد زحل.. وكذلك عندما برع في عمله وأتقن مجاله وأراد أن يستثمر جهده لنفسه بما يعود عليه بالنفع بدلاً من النقود البخس التي كان يتقاضها من الشركة الزحلية ورغب بأن يستقل بتأسيس عمله الخاص ويترك العمل لدى الزحليين.. كانوا له بالمرصاد وهددوه بالعقاب والترحيل إلى كوكب الأرض، تجرع تحسين مرارة هذا الواقع على مضض، وأقنع نفسه بأن الطمع ضيع ما جمع.. وأن القناعة كنزُ لا يفنى.. وأن وظيفته لدى الشركة الزحلية هي حلمٌ لكثيرٍ من شباب الكواكب الأخرى وبالذات شباب الأرض.. ومضت سنة ضوئية تلو أخرى، وتحسين ينتهج سياسة التقشف والتوفير على أمل أن يحقق حلمه ويمتلك مسكنه الخاص بدلاً من دفع الإيجار الذي أثقل كاهله.. وعندما حان اليوم الموعود بعد أن اجتمعت لديه النقود.. تلاشت أمامه الوعود وتبخر الأمل المعقود، فحق التملك العقاري هو حق محصورٌ بالزحليين وحدهم، وأي جهدٍ في ذلك المضمار فطريقه مسدود مسدود!
أما إحسان، فبمجرد هبوطه على سطح المريخ شعر بثقل التحدي.. فالفرق شاسع واللغة عصية.. ولكنه لم يستسلم.. قرر تعلم اللغة والاجتهاد لفهم الكوكب.. وخلال هذه المرحلة الشاقة بدأ بالتعرف على "المريخيين" عن قرب، ومع تقدمه في اللغة صار أقدر على التواصل معهم، لم يستطع أن يمنع نفسه من الدهشة وهو يلاحظ سلوك أهل المريخ الإيجابي تجاهه.. كان يستشعر مدى الدعم الذي يتلقاه منهم معنوياً ومادياً، فكما كان المريخيون يمدون له يد العون وهو يتلمس طريقه في البدايات، كانوا يتكفلون بمصاريفه مع عائلته بالكامل، قدموا لهم السكن والطعام والشراب.. حتى أطفاله دخلوا أرقى المدارس جنباً إلى جنب مع أطفال المريخ.. لم يكن يوماً عُرضَةً للتمييز أو أشعروه بالفرق على الرغم من اختلاف اللغة والثقافة والعادات والتقاليد، على العكس تماماً، إذا تعرض للتميز أو التنمر من أحد المريخيين فبإمكانه اللجوء للقضاء المريخي العادل الذي سيعاقب المريخي العنصري بالغرامة والسجن.. إحسان كان سريع التعلم.
تمكن من اللغة في أقل من سنة ضوئية.. و بدأ رحلة البحث عن العمل، فساعدته وكالة العمل المريخية وأصدقاؤه المريخيون في إيجاد وظيفة مناسبة بوقت قياسي.. وبعد فترة أتقن إحسان مجاله وقرر أن يستثمر جهده لنفسه.. وعلى الفور باشر بتأسيس شركته الجديدة التي يملكها وحده بالكامل بمنتهى السلاسة واليسر.. وطبعاً وجد الدعم المادي والمعنوي من المريخيين مع بداية عمله الخاص واستمر بتلقي الدعم المادي حتى اشتد عوده ونضجت أعماله فأعلم الجهات المريخية المختصة باكتفائه وطلب إيقاف المعونات المقدمة له بهذا الصدد وتلقى على إثرها كتاب شكرٍ من وزير الاقتصاد المريخي لإسهامه في إثراء اقتصاد المريخ، وهنأه بنجاحه في الاعتماد على نفسه.
وبعد سنة ضوئية تمكن إحسان من جمع المال اللازم لتملك مسكنه الخاص وحقق حلمه بامتلاكه بيتاً يؤويه مع عائلته بعيداً عن عبء الإيجارات بدون أي عقبات إجرائية معطلة أو قوانين مريخية تمنع التملك للغرباء من كواكب أخرى.. وبعد خمس سنواتٍ ضوئية.. وصلته رسالة من وزير الداخلية المريخية يعلمه فيها أنه قد تم منحه الجنسية المريخية ويرحب به كمواطن في كوكب المريخ.
انقضت السنوات الضوئية العشر.. وأزف الموعد المنتظر بين التوأمين تحسين وإحسان.. حزم إحسان حقائبه وغادر مع عائلته باتجاه كوكب الأرض وهو يحلم بلحظة اللقاء مع توأمه تحسين ليحكي له ما حدث له خلال غربته الكونية طوال السنوات الضوئية العشر التي افترقا فيها.. وهو ينتظر بلهفة ليقص عليه تحسين ما حصل معه كذلك.. هبطت مركبة إحسان على سطح الأرض.. لم يتغير الكوكب كثيراً.. ربما ازداد كلاحةً بعض الشيء.. أسرع إحسان إلى مكان موعده مع تحسين بعد أن أتم إجراءات السفر بسهولة خلال دخوله لكوكب الأرض بفضل جوازه المريخي المحترم على مستوى مجرة درب التبانة بل على مستوى المجرات الأخرى كذلك.. وصل إحسان للمكان الموعود للقاء.. ومضت ساعات تلو ساعات.. ولكن تحسين لم يظهر .. ظن إحسان أن هنالك تأخيراً في الرحلات القادمة من زحل بسبب العاصفة الشمسية التي تضربه حالياً .. وفجأة تلقى اتصالاً عبر جهاز الهولوجرام الخاص به ليتجسد أمامه أخوه تحسين والدموع في عينيه وهو يعتذر منه بصوتٍ يشبه النحيب: "آسف يا أخي إحسان.. لن أستطيع الحضور.. فكفيلي الزحلي رفض إصدار تأشيرة خروج وعودة لأتمكن من السفر إليك!".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.