يقول الناقد الفني المغربي حسن البحراوي: "إنَّ الاختلاف الطبوغرافي بين الفضاءات يصاحبه دائماً اختلاف أيديولوجي ونفسي واجتماعي". وهذا يوضح دور البيئة في رؤية وطبيعة الإنسان، إذ تتشكل تكويناته الخُلقية والعقلية بصورة تحمل عناصر أماكن إقامته. وهذا الأمر يمكن مُعاينته أكثر على المستوى الفني في مصائر الشخصيات الروائية، لاسيما عند انتقالها إلى أمكنةٍ أخرى، لأنَّ المكان كما يقولُ الباحث في الأدب الرومانسي، شارل غريفل، يتحدثُ عن البطل ويترجم سلوكه على نحو يمكن لك توقع المغامرة التي تنتظره. هناك تفاعل متواصل بين المكان وأفعال الشخصيات، ولا تتخذ البنية المكانية ملامحها الواضحة دون سيرورة الأحداث التي تقوم بها الشخصيات. ورغم وجود تصنيفات للأماكن فإن ما يجمعها بأشكالها وأنواعها المختلفة في الرواية هو طابعها اللغوي، وذلك لا يمنع وجود مرجعية خارجية يحيل إليها مكان بعينه.
وبما أن الرواية هي الجنس الذي ينشأ في حيز اللامتوقع على حد تعبير الكاتب والروائي كمال الرياحي، فإن المجال يكون متاحاً للمؤلف لاختيار الأماكن بما فيها الصحراء التي تتحرك في براحها شخصيات رواية "بنات نعش" للكاتبة السورية لينا هويان الحسن، التي أضافت لعملها عنواناً توضيحياً: سيرة صياد الوحوش على ضفاف الفرات (الأبهر سعدون). ومن هنا يتشابك المُتخيَّل بالواقعي، خصوصاً عندما تستشهدُ مؤلفة (ألماس ونساء) بتواريخ حقيقية وتُشركُ شخصيات كان لها دور في تاريخ المنطقة داخل روايتها، ناهيك عن تدخلها الصارخ في بعض المقاطع، ونقلها للكلام من شخصيات أخرى يُقرب العمل أكثر من نوع السرد التسجيلي.
مكان غير مُحدد
تتميزُ الشخصيات في رواية (بنات نعش) بالحرية في تحركاتها، حيثُ المساحة مفتوحة في الصحراء، ولا وجود لحواجز حدودية. غير أنَّ ذلك لا يعني غياب مخاطر قد يكون مصدرها من الداخل، وهو يتمثلُ في النزاع حول الزعامة والمشيخة، أو من الخارج، نتيجة لتدخلات مغرضة من الأجنبي، وما يحتم التحوط أكثر هو محاولات الغرباء استمالة بعض من يعيشُ في الصحراء لتأجيج الصراعات، ما يوفر مزيداً من الفرص لنجاح المُندسّين. بجانب ذلك، ومثلما أن حياة الصحراء تفرضُ شروطاً معينة في سلوكيات وأنماط الحياة أيضاً تتحور الأسماء، كما أن انتحال شخصية أو اسم مُحدد في الصحراء يصبحُ محاولةً للتمويه والتحايل على الخطر. ويتطابق أحياناً الاسم مع أطوار الشخصيات النفسية، إذ يتدخل الراوي لشرح الدوافع وراء إطلاق أسماء محددة على شخصيات الرواية، ومن ثم الغرض من اختيار تسمية جديدة.
"زعل" هو أحد شخصيات الرواية، صديق سعدون الأبهر، سُمي باسم الجبل الذي ولد في سفحه، لكن يُعرف بـ"زعل" كونه صامتاً وحزيناً في أغلب الأوقات. كذلك يتخلى سليمان عن اسمه ليُصبح "يوسف الأحمر" بعد أن يخونه الأهل، وعندما تصل الفتاة الجورجية "كرستين" إلى إسطنبول تتقمص شخصية جديدة، ويكون اسمها في حرملك (قلبيهار)، ويناديها سيدها الجديد في بيروت بـ"عرافة" ويُلقب سعدون بـ"غرنوق".
إضافة إلى توارد أسماء أجنبية في إطار هذا العمل (جيرترود بيل) التي تؤسسُ متحفاً للآثار في العراق، (ت.أ. لورانس العرب)، (كار رضوان)، (مارغريت داندوران).. وقد يكون الهدف من ذكر تلك الأسماء الأخيرة هو تعضيد الجانب التوثيقي في الرواية.
وكثيراً ما تحيلك الإشارات إلى الهوامش لاستيضاح معنى الأسماء والعبارات المنثورة في مقاطع سردية أو في حوارات متبادلة بين الشخصيات. والمسوغ لذلك أن البيئة البدوية تُطبع الرواية بخصوصياتها وملفوظاتها المُميزة، حيثُ يَصْعب فهمها دون تقديم تلك الشروحات، الأمر الذي يحيلنا إلى مستويات اللغة التي لا تنفصل عن عنصر الشخصية والمكان. لكن ما يلفت النظر هو أن شخصيات الرواية تقيمُ في بيئات حضرية مؤقتاً، خصوصاً الشخصية الرئيسة "سعدون الأبهر"، الذي تمتد المسافة أمامه من بغداد مروراً بحلب وبيروت ودمشق، دون التخلي عن أخلاقه البدوية. كما تمرر الكاتبة إشارة عن شدة تمسك البدو بنمط عيشهم، إذ هم ينشئون بيت الشعر على سطوح منازلهم في بغداد، وذلك يُومئ إلى تأثير عميق لبنية المكان على أخلاقيات الشخصية.
فيجعة بنات نعش
يمكنُ توصيف الحالة التي تتشارك فيها مُعظم الشخصيات بالفجيعة؛ إذ يكونُ سعدون الأبهر مفجوعاً مرتين، الأولى عندما يقتلُ عمه والده طمعاً في المشيخة، والثانية حين تقتل ماران، الفاتنة التي كان أبوها المدلج يوثق علاقاته بتزويجها للأمراء والمشايخ. كما أن مقتل أخيه عناد يعمقُ جرحه، كذلك غياب صديقه (مناحي). أضف إلى ذلك صراع البطل مع المخاطر والتهديدات ونجاحه من الإفلات والعثور على أعدائه، كل ذلك يجعل من الأبهر شخصية تُضاهي ما ذكرته الأساطير من شخصيات خارقة وتراجيدية.
أيضاً تنتهي حياة "نجمة" على يد "طراد سالم"، لتكون ضحية لنزوة رجل لم يحبها إلا لمداواة حبه لامرأة أخرى. و"تويما" هي أيضاً امتداد لحالات التفجع والخيبة بفقدان حبيبها فارس. وتأتي قصة "يوسف" في هذه السلسلة أشد تأثيراً، فبعدما أتم دراسة الحقوق في إسطنبول عاد ليتوج علاقته بالفتاة الفقيرة التي انتظرته بارتباط دائم، لكنه يقعُ في مؤامرة تتداخل خيوطها وأطرافها، منذ ذاك الحين لا يشغله سوى الثأر لحبه، ومن أجل ذلك يبدلُ اسمه بـ"يوسف"، مع ما تحمله التسمية الأخيرة من حمولة رمزية. ويتذوق ابنُ أحدِ وجهاء حماة طعم المرارة، بعدما تبوح له المربية العجوز في وقت متأخر بأنَّ أمه ماتت قتيلة بدسيسة زوجة أبيه.
مرحلة مفصلية
يتحدد البعد الزمني في الرواية بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، إذ انسحب ظل الإمبراطورية العثمانية من الأماكن التي تترصدها الرواية. ومن المعلوم أنَّ تلك الحقبة التاريخية تغص بأحداث تحفرُ آثارها على تركيبة المنطقة. ولا يفوت القارئ تلقي الإشارات الواردة في متن الرواية بهذا الشأن، مما يُذكر عن دور جهات مُعينة لإحداث شيوخ جدد، وتأليب العشائر ضد بعضها خدمة لمآرب الآخرين. كما يحتفي العمل ببعض شخصيات يستحيل الاستهانة بدورها البطولي في مواجهة المحتل، منهم الشيخ الضاري، الذي يرمز إلى الوحدة الوطنية.
تختم الرواية بمشهد يؤكدُ تقاطع مصير البطل سعدون الأبهر ومصير المكان غير المحدود، فمثلما يحيق بتلك البلدان التي ترد أسماؤها في الرواية الغموض والضبابية، كذلك البطل يغيب بفعل زوبعة، وآخر ما شهد منه رفيقاه أن صيَّاد الوحوش رفع يده ولم يُفهم هل هو يودّع أم يُحيّي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.