العامل المشترك في تعامل معظم أنظمة الحكم العربية خلال القرن الماضي ولغاية اليوم مع أصحاب الفكر الذي لا يتوافق مع نهج الحكم حتى لو كان سليماً هو الإقصاء، سواء من خلال السجن والتعذيب وفي بعض الأحيان وصلت إلى الإعدام، وتبقى لتفاصيل قصة "فارس المنابر" الشيخ عبدالحميد كشك ما يميزها عن غيرها وفيها الكثير من العبر التي توضح لماذا مازلنا نراوح مكاننا ونتراجع عن مواكبة الحضارة!
قریة شبراخیت بمحافظة البحیرة المصرية شهدت ولادة "الشيخ كشك"، وذلك في العاشر من مارس/آذار عام 1933م، وتميزت طفولته بأحداث غير تقليدية، منها حفظه للقرآن الكریم قبل بلوغه عامه العاشر، وكذلك نشأته يتيماً وفقدانه البصر في إحدى عينيه عندما بلغ ثلاثة عشر عاماً من عمره قبل أن يفقد الأخرى عندما بلغ السابعة عشرة، وكان المرحوم يردد ما قاله حسان بن ثابت شاعر النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
إن یأخذ الله من عیني نورھما.. ففي فؤادي وعقلي عنھما نور
التفوق العلمي أحد العوامل المشتركة بين العديد من الشخصيات التي أقصتها أنظمة الحكم، وهكذا كان حال الشيخ كشك، الكفاءة العلمية بمعنى الكلمة والذي حصل على تقدير 100% في السنة الثانية ثانوي وكذلك في الثانوية الأزهرية وكان ترتيبه الأول على جمهورية مصر العربية في ستينيات القرن الماضي، وهو نفس المركز الذي كان يحصل عليه خلال سنوات دراسته في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وقد كان بعض أساتذته يستعينون به لشرح بعض المحاضرات للطلاب وتحديداً تلك المتخصصة بعلوم النحو والصرف.
كفاءة عالية المستوى بهذا الحجم كان من الأفضل الاستفادة من قدراته ومنها شخصيته وعمله وبلاغته ودمجها في المجتمع بشكل إيجابي، بدلاً من صناعة "عدو للسلطة" لمجرد أنه مختلف عن فكر السلطة ومنتقد لها، ومن ثم زجه في السجن!
كانت شخصية الشيخ تميل للاهتمام بالدعوة إلى الإسلام، وكذلك الاهتمام بمشاكل الناس، ولذلك لم يجد نفسه في العمل كمعيد في كلية أصول الدين، واستقال منها وتم تعيينه إماماً لمسجد "عين الحياة" في منطقة حدائق القبة بالقاهرة، وهناك ذاع صيته كثيراً من خلال خطبه التي تجاوز صداها حدود مصر، وكان بعض زوار القاهرة من العرب يحرصون على الاستماع لخطبة الجمعة في مسجد "عين الحياة".
تجلت عبقرية الشيخ كشك في كيفية استخدامه لبلاغته وشخصيته خفيفة الظل في النقد بكل جراءة، وكان مواكباً للأحداث بمختلف الاتجاهات السياسية والفنية والاجتماعية، وهذا ما ساهم في زيادة متابعته من عامة الناس، فلم يسلم من نقده رؤساء مصر، سواء جمال عبدالناصر الذي زج به في السجن، وهو ما فعله لاحقاً أنور السادات، الذي قال فيه الشيخ: "لا نور ولا سيادة"، وكان الانتقاد قد بلغ أوجه بعد زيارة السادات للكنيست اليهودي وتوقيع اتفاقية مع المحتل الصهيوني، وكذلك انتقد كثيراً زوجته جيهان السادات نظراً لدورها الكبير في قوانين المرأة والأسرة.
كذلك وصف حسني مبارك قائلاً: "لا حسن ولا بركة"، وقد أطلق حسني مبارك سراح الشيخ عام 1982 بعد استلامه الحكم ولكنه منعه من الخطابة منذ ذلك الحين في بداية الثمانينات.
تجلت بلاغته كثيراً في نقده لنجوم الفن والمجتمع في ذلك الزمن، وخصوصاً أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب وفايزة أحمد وعادل إمام وأنيس منصور ونجيب محفوظ وغيرهم الكثير، ومازالت مقولاته النقدية خالدة لغاية اليوم.
على عكس ذلك، فقد رزق الشيخ كشك بـ"حسن خاتمة"، والتي روتها زوجته على لسانه والتي تخللتها رؤيته للنبي محمد عليه الصلاة والسلام وعمر بن الخطاب رضي الله عنه في منامه، وسلم على عمر، ومن ثم وقع على الأرض ميتاً وغسله الحبيب المصطفى، وكان سعيداً بهذه الرؤيا، وفعلاً توفي بعدها في المسجد وهو ساجد في الركعة الثانية من تحية المسجد في عام 1996.
لم تتغير طريقة تعامل مؤسسات الحكم مع المعارضين وخصوصاً التيارات الإسلامية وذلك من خلال الإقصاء بدلاً من الاندماج، والحقيقة أن الأمة العربية تحتاج بعد أكثر من مئة عام من الصراعات أن تتعلم من التجارب المريرة التي جعلتنا في مؤخرة الركب الحضاري، ومن مصلحة الجميع إيجاد نقاط للتلاقي تضمن لجميع الفرقاء دورهم في صياغة المستقبل.
رحم الله الشيخ عبدالحميد كشك "فارس المنابر" والذي مازال صوته يصدح عالياً مردداً "هنا مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم مكتوب على بابها: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.