على وقع عودة تحركات الشارع في لبنان ومحاولة مجموعات الانتفاضة استعادة لحظة 17 تشرين 2019 العاطفية، والتي قد لا تتكرر قريباً نتيجة الفراغ الذي سببه تخبط المجموعات السياسية الناشئة من رحم الانتفاضة، وتمكن السلطة من الالتفاف على مطالب الناس، والتي استخدمت في سبيلها كل الأدوات الممكنة والمتاحة، آخرها إطلاق العنان لمحازبيها للنزول إلى الشارع تحت عناوين مطلبية وشعبية .
تبدو المقاربات الميدانية مفتوحة على كل شيء مع الارتفاع الجنوني للدولار أمام العملة المحلية وحروب اللبنانيين الدائرة في المؤسسات الغذائية والتي قاربت على إعلان عدم قدرتها على شراء أي منتج، وما قد ينتج في حال قرر اللبنانيون التحرك باتجاه الشارع، لكن التخوف يكمن في الفوضى والتي حذر منها وزير داخلية العهد والذي صرح بأن الدولة لم تعد قادرة على حماية الناس.
فيما الجيش والقوى الأمنية تلتزم حتى اللحظة بموقفها بحماية أي تحرك في الشارع دون السماح بالفوضى، وفق سقف عنوانه التصدي لأي عنف محتمل قد ينشب في الشارع، هذا في الشكل، لكن في مضمون كل المحاولات السياسية الدائرة لولادة الحكومة قبيل الارتطام المنتظر وإعلان تحلل الدولة، ينتظر الرئيس المكلف سعد الحريري لحظة دخوله البيت الأبيض من خلال مساعٍ يقوم بها مع بعض المقربين منه لحجز موعد مع بايدن، والذي لا يعير اهتماماً للبنان في المدى المنظور، لا ينام الحريري ليله فيما عقله في الرياض وتفكيره يطوف في واشنطن.
مبادرات وحراك وساعات حاسمة
في الأيام الأخيرة نشطت على خط بعبدا-بيت الوسط وساطات ومبادرات بهدف الضغط لتشكيل الحكومة، لكن ما يبدو جلياً وبعيداً عن كل الأجواء الإيجابية السائدة في الإعلام أن الطرفين متشبثان بمواقفهما حول شكل الحكومة وتوزيع الوزراء، لذا فإن عون والذي وافق على صيغة التخلي عن الثلث لا يزال يطالب بوزارة الداخلية إضافة للعدل والدفاع، وهذا ما يرفضه الحريري، يضاف إلى ذلك أن البلاد تمر بمرحلة لم تشهدها حتى في مرحلة الحرب الأهلية، حيث الدولار يشهد ارتفاعاً جنونياً وصل إلى أعتاب 15 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، فيما الوسطاء الذين يطوفون بين بكركي وبيت الوسط وبعبدا يؤكدون للأطراف المرتبطة بعملية التشكيل أن لبنان بات في قعر البئر المظلمة، وأن الحلول باتت شبه معدومة، وأن ساعات معدودة على الانهيار الكبير.
والجديد أن الرئيس المكلف سعد الحريري أبلغ الوسطاء أن عدم منحه الثقة من قبل تكتل رئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل، يعني تخفيض حصة رئيس الجمهورية ميشال عون من خمسة وزراء إلى ثلاثة، ما فتح الباب على إعادة التراشق السياسي على خلفية هذا الموقف، فيما خرجت مبادرة لرئيس مجلس النواب نبيه بري تمّ الحديث عنها وتقضي بالعودة إلى خيار 18 وزيراً، على أن يأخذ على عاتقه طرح مجموعة أسماء مرشحة لحقيبة الداخلية والعدل، ليتم الاختيار من بينها، لكن الرفض كان سيد الموقف من قبل عون والحريري، فيما ينتظر عودة وفد حزب الله من موسكو لمعرفة ما يمكن القيام به في ظل التأكيد الروسي على دعم الحريري ورفض منح التيار الوطني الحر الثلث المعطل في الحكومة، وهذا ما عبر عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف والذي استقبل وفد حزب الله وأسمعهم الموقف الروسي من الأزمة اللبنانية.
فيما رئيس الجمهورية يصر على أن صيغة 18 وزيراً باتت من الماضي، وأن الصيغ المطروحة تبدأ من 20 إلى 22 وزيراً، جاء موقف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بعد لقائه الحريري حول أن الصيغة الثابتة هي 18 وزيراً والذي نقل عنه رفضه لمبدأ توسيع الحكومة، وأن لا تطورات في المشهد الحكومي طالما لا يزال رئيس الجمهورية وصهره يتمسكان بشروطهما، فيما يرى أن الحل يكمن بالوصول إلى صيغة ترضي جميع القوى، من دون الشروط التعجيزية التي تصدر فترة بعد أخرى.
السعودية و"لا" الحتمية
ربما ما يحدث بين سعد الحريري والسعودية سابقة سياسية نادرة لم تحصل إلا في نوادر العصر، فالسعودية ترفض حتى اللحظة منح الحريري تأشيرة دعم لحكومته، سفيرها الذي بات يستقبل ويودع كل ضيوف وزوار لم يحط في بيت الوسط ولم يلتق الحريري لا بل صعد لزيارة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، والمتحمس للطرح السعودي بإبعاد الحريري عن الحكومة، لأنها فخ نصب له، وعليه فإن وليد البخاري -السفير السعودي في بيروت- لم يبادر باتجاه الحريري لا بزيارة ولا حتى باتصال على الرغم من مساعٍ يجريها البعض لتأمين لقاء بين الجانبين، إلا أن البخاري لا يزال يتعاطى وفق السياسة السعودية الموضوعة للبنان، وهي أن صفحة سعد الحريري طويت إلى غير رجعة -هذا ما يبدو حتى الآن- وتتجسد هذه السياسة عبر رفض استقبال ولي العهد السعودي للحريري، والتأكيد على أن الحكم يصدر عقب تشكيل الحكومة، طالما أن هنالك لمسات لحزب الله في المشهد الحكومي والذي يستفز المملكة.
وعلى الرغم من مناخات إيجابية أمريكية تطاول الملف الحكومي أولاً عبر لسان السفيرة الأمريكية دورثي شيا والتي تحدثت عن ضرورة تشكيل حكومة بشكل سريع لوقف الأزمات، ولقائها بالحريري في بيت الوسط، وبحسب ما تمخض عن لقائهما، فإن الحريري طلب من شيا ترتيب لقاء له في البيت الأبيض، إلا أن شيا أكدت للحريري أن إدارتها تدرس أولوياتها في المنطقة، وقد يتأخر الموعد في المدى المنظور، ووفق مطلعين، فإن الحريري كرر على شيا طلب تحديد الموعد ليستطيع إقناع واشنطن بالضغط على بن سلمان لدعم حكومته في حال تشكلت، لكن لا جواب فعلي حتى الآن، فالرياض تصم آذانها عن الحريري .
وفي ظل التشبث السعودي بموقفه حيال لبنان، هناك أبعد من الأسباب المحلية لتحركات حزب الله الخارجية، والتي بدأت في موسكو، فالعين على ملف اليمن، والسباق بين المفاوضات الجارية والتي تقودها الدبلوماسية التركية-القطرية لوقف التمدد الحوثي، وبين المواجهة العسكرية واحتمالات سقوط مأرب، والتي إذا ما سقطت يعني أن الأمن القومي السعودي بات في مرمى إيران، فيما يتداول حلفاء حزب الله ربط الموضوع اليمني بعودة المملكة العربية السعودية لمساعدة لبنان، كمقايضة مرحلية لتمرير الوقت قبيل الاتفاق الكبير.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.