إن تسارع وتيرة الأحداث والتطور المذهل والسريع للعلوم التقنية خلال المئة سنة الأخيرة والذي لم تتمكن العلوم الإنسانية من مواكبته بحكم أنها في معظمها معتمدة على تفاعلات مفرزات هذا التطور مع العامل البشري عبر الزمن بحيث ترسم المراقبة الصبورة لآثار هذا التفاعل ونتائجه الجانب الإنساني من هذه النهضة.. هذا التباطؤ المبرر ساهم في تشكل نوعٍ من أنواع العجز عن المحاكمة العقلية الصحيحة المرتبطة بالأخلاقيات والمبادئ والحقوق والواجبات والتي عادةً ما تنظمها العلوم الإنسانية والمجتمعية والقانونية والفلسفية.
في ظل تقارب الأزمنة المخيف الناجم عن التطور التقني الهائل أمسى البعد الإنساني الاجتماعي يرزح تحت ثقل ضغطٍ شديد وخطير أدى به إلى قصورٍ ملحوظ يشبه الشلل.. مما يقلب الموازين المعروفة رأساً على عقب ويدفع البشرية نحو الانحدار، بل السقوط في قاعٍ بعيد القرار.. حيث أصبحت الحياة عملية لدرجة أنها خلت من اسمها.. سيلٌ رقمي جارف لا يتيح لمن يعترضه متعة التأمل.
صخبٌ إلكتروني يحيط بنا من كل جانب يحجب عنا همسات الحس الأدبي.. في غابر الأزمان كانت الفجوة بين الأجيال موجودة بلا شك.. ولكنها كانت فجوة قابلة للردم بسهولة نسبياً.. بمجرد مد الأب يده للابن أو مد الابن يده لأبيه.. فقيم الجيلين هي ذاتها.. قيمٌ مستمدة من ثوابت المجتمع والبيئة المحيطة من جغرافيا ضيقة وديموغرافيا محدودة مقتصرةٌ على الأسرة والجيران وربما تتعدى إلى الحي أو حتى المدينة.. ولكن ما زالت أقدام الجيلين على ذات الأرضية والمسافة بينهما يسيرة.. بخطوات بسيطة على طريقٍ واضح المعالم وبوجوه معروفة التقاسيم والملامح يمكن للجيلين أن يلتقيا.. أما اليوم فالفجوة بين الجيلين أبعد مما نتخيل.. والهوة ذات عمقٍ سحيق.. فالعوامل المؤثرة في جيل اليوم مع كل هذا الزخم التقني متغيرة إلى حدٍّ لا يمكن تخيله ومن الصعوبة بمكان مواكبة هذه المتغيرات من الجيل السابق حيث يبدو الأمر وكأن الجيلين يعيشان في أبعادٍ مختلفة لا مجال للتلاقي بينهما.. حتى لو رغب الجيل القديم بمجاراة جيل اليوم فلن يتمكن من ذلك.. فسرعة جريان الزمن في البُعد الذي يعيش فيه الجيل الجديد يجعل من المستحيل على جيل الآباء اللحاق بهم فيتركهم حبيسي بُعدهم وهم يرقبون بحسرةٍ ولوعة ابتعاد جيل الأبناء عنهم بسرعة شديدة لم يعهدوها من قبل.
وما هي إلا سنوات.. حتى تصير الفجوة خرافية أشبه ما تكون بثقبٍ أسود يبتلع جيل الأحفاد، وعيون الآباء وربما الأجداد تنظر بعجزٍ ولوعة.
ذات يوم رآني أحد أبنائي وأنا منهمكٌ في وضع اللمسات الأخيرة لمقالٍ لي سأنشره على صفحتي في الفيسبوك.. فتبسم وقال لي: "ما زلت تستعمل الفيسبوك!.. هذا يصلح للأجداد.. أنصحك بأن تواكب التقنية" ثم انصرف ليتركني غارقاً في التأمل.. إذا كان ابني في الصف الثامن ينصحني بأن أواكب التقدم التقني وأنا مهندس الاتصالات والإلكترونيات الخبير في مجال التقنية الرقمية.. ترى ماذا ستقول ابنة أخي لأبيها طبيب الأسنان؟!
على الرغم من قتامة هذه الرؤية إلا أنه ينبغي على جيلنا جيل الآباء ألا يستسلم لهذا الواقع وأن يتعاطى معه بمتابعة واعية وبمرونة ذكية.. فمن يعتقد أن جيل اليوم قد يحصل على المعلومة عبر الرجوع للمصادر ومطالعة المراجع وقراءة أمهات الكتب فهو منفصلٌ عن الواقع.. ومن ظن أن القراءة التقليدية شغفاً بالعلم أو طلباً للمتعة ما زلت مزدهرة في أوساط هذا الجيل فهو مفرطُ بالتفاؤل.. ومن لم يدرك حتى الآن أن مفتاح مخاطبة هذا الجيل يكمن في المعلومة القصيرة السريعة المركزة المزركشة.. بضع عبارات توصل إلى الفكرة أو مقطع مصور لا يتجاوز الدقيقة الواحدة يختزل المعلومة.. هكذا يمكن لنا التواصل مع جيل تويتر ذي الحروف المعدودة وجيل سناب شات ذي المشاهد المقتضبة العجولة.
من واجب الأهالي في يومنا هذا إثراء حيز الفكر في عقول أبنائهم وكسر جمود التعامل الرقمي بلمسات أدبية تدغدغ العواطف الإنسانية مع مراعاة أن يتم الأمر بجرعات موجهة بعناية.. مقتضبة بما فيه الكفاية.. مشوقة للغاية.. فواقع اليوم يفرض نفسه.. وأبناؤنا شئنا أم أبينا يعيشون ضمن فقاعة رقمية تحيط بهم من كل جانب.. يستحيل عزلهم عنها.. والحكيم من الآباء لا يسعى لسحب ابنه خارج هذه الفقاعة بل يحاول اختراقها بذكاء لتمرير الجرعات اللازمة من الأدبيات والإنسانيات والقيم لفلذة كبده المنعزل طوعاً أو كرهاً ضمن هذه الفقاعة.
إن من أخطر جوانب التقدم التكنولوجي وأشدها قتامة هو طغيانه على الجانب الإنساني وتغليبه لماديات الحياة على القيم.. فكما تلهث الأجيال السابقة لتلحق بالأجيال الحالية.. تجاهد العلوم الإنسانية للحاق بأخلاقيات جيل ومضات الألياف الضوئية لعلها تتمكن من بث بقايا روحٍ فيما كان يُعرف بالنفس البشرية قبل أن تتحول إلى كيانٍ رقمي مبهم الملامح غامض المعالم.. يهيم في عالمٍ لم يعُد يشبه العالم الذي وُلدنا فيه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.