يُطرح اسم طارق البشري ضمن لفيف من أعلام الفكر والقانون اللامعين في المجال التداولي العربي والإسلامي الذين شغلتهم إشكالات التجديد في الفكر والتشريع والسياسة، وقد ظل البشري؛ الذي ينحدر من عائلة علمية عريقة، حيث تولى جده مشيخة الأزهر وكان أحد أعمامه أديباً لامعاً، مهجوساً منذ عقد الستينيات إلى أن وافته المنية قبل أسبوع، بأبرز الإشكاليات الفكرية والسياسية والقانونية التي وجدت مصر الحديثة والوطن العربي نفسه أمامها مع سياق الدولة الوطنية، أي منذ دولة ما بعد الاستقلال إلى زمن الربيع العربي الذي أعاد إلى الواجهة التفكير في قضايا الدولة والمجتمع وما يتفرع عنهما من قضايا فكرية وسياسية واجتماعية، حيث ظل البشري معتكفاً في محراب الفقيه القانوني والمفكر المجدد والمؤرخ، دون أن ينفصل عن قضايا المجتمع.
يذكرنا كل مرة وحين بخلفية من خلفياته ومقاربة من مقارباته المتنوعة والغنية للنظر في التوترات التي برزت إلى السطح بفعل ديناميات حركات التغيير المجتمعي التي عمت الإقليم. ويحضرنا مفهوم التيار الأساسي للأمة لراهنيته، والذي سنفرد له مقالة خاصة بعد أن نعرف بالمكانة التي تحظى بها شخصية طارق البشري والقسمات التي ميزتها وميزت منتجه الفكري بشكل مجمل.
تتنوع الخصائص والسمات التي جعلت طارق البشري متفرداً بين مجايليه في السياق الفكري العربي المعاصر، مما منح لتراثه الفكري ونظراته المتنوعة أهمية وحضوراً نوعياً، وإن كان مقلاً في التأليف بالمقارنة مع مفكرين آخرين تصدروا المشهد الفكري في المجال التداولي العربي من مختلف المشارب. وتكمن أهمية فكر الرجل وفرادته، بالنظر إلى طبيعة المنطلقات التي يستند عليها في بناء مقارباته، والتي يمكننا النظر إليها من خلال مستويين:
المستوى الأول: الخلفية النظرية التي يمتزج فيها منظار الفقيه القانوني الذي يشتبك مع إشكالات من صميم التشريع تتعلق بملاءمة التشريع القانوني مع التكوين النفسي والعقائدي والقيمي للجماعة الوطنية (من كتبه في هذا الجانب: الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي)، وقد لا نحتاج إلى التدليل على مدى التضارب الذي حصل على مستوى المرجعيات والإشكالات التي أثيرت في الزمن الحديث والمعاصر، والذي يحتفظ التراث النهضوي فيها بكم هائل من الكتابات، من استعارة جملة من القوانين من عهد رفاعة الطهطاوي مروراً بالسنهوري وعبدالقادر عودة وعبدالوهاب خلاف، ثم الندوات والمؤتمرات التي جمعت بين علماء الشريعة وفقهاء القانون (ينظر دراسته: السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية)، بل إنه ممتد إلى زمننا الراهن بالنظر إلى التوترات التي وجد العقل الفقهي والقانوني نفسه فيها مع متطلبات الفكر والدولة الحديثة، التي لا يمكن إغفال كونها منظومة وليست كياناً معزولاً. هنا وفي هذا السياق كان طارق البشري واحداً من المبرزين في عملية الملاءمة والتجديد، بل إن البشري كان واحداً ممن رصدوا نقدياً ديناميات التحديث والإصلاح بين البعد الفكري والمؤسسي في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ومواكبته للربيع العربي وإسهامه فيه من زوايا متنوعة، أهمها رئاسته اللجنة المكلفة بصياغة دستور المرحلة الانتقالية، ثم اعتراضه على الانقلاب العسكري.
من جانب آخر من خلال المنحى النظري عند البشري، نجد خلفية المؤرخ الذي يقرأ الظواهر والأحداث السياسية التي مضت أو التي تحدث، ليس بمنظار الفاعل المتماهي معها، وإنما من خلال تجريد معطياتها والنظر فيها وفي ديناميات الواقع والمجتمع، وهذا ما يمكن تتبعه معه في رصد الحركة السياسية بمصر في كتب متنوعة تقارب حقبة الخمسينات أو ثورة يناير/كانون الثاني، بالإضافة إلى دراساته القيمة عن علاقة الدولة بالأقباط أو الأقباط بالمسلمين والجماعة الوطنية عموماً، بالإضافة إلى باقي الكتابات بخصوص العلمانية والقومية وغيرهما من القضايا التي أثيرت في عقود ما بعد الاستقلال، وفي تلك الكتابات من خلال الأدوات التي يعملها، لا نجد المؤرخ الذي يتعامل ببرودة مع المتغيرات والقضايا، إنما ينضاف له منزع المفكر في الآن ذاته، وهو ما اصطبغت به كتاباته، بحيث نكون أمام مادة علمية بخلفيات نظرية متنوعة، بالإضافة إلى حس التجربة الذي سنلحظه من خلال المستوى الثاني.
المستوى الثاني: والذي يمكن أن يشكل مدخلاً لأهمية المنتج الفكري لطارق البشري، فيكمن في الجمع بين البعدين النظري والعملي، فلم يكُن البشري رجل علم وحسب في محراب التأليف يمارس نسكه العلمي معتزلاً الممارسة الميدانية، منفصلاً عن المعاينة للواقع، كما لم يكُن رجل قانون يمارس مهنة القضاء التي تدرج فيها إلى منصب نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس لجنة إعداد الدستور، ينظر في مهماته خلف الستار، بل كان رجل قانون مسنوداً مخضرماً في تكوينه ومتنوع المشارب في منطلقاته، مسنوداً بتجربة حية ذات غنى متفرد تجمع بين النظري المجرد والعملي المجسد.
بكلمة، لقد كان الراحل طارق البشري مجدداً حاز مكانة وسلطة علمية رفيعة وصاحب رأي واجتهاد مستقل، يمد الجسور بين الفكر والواقع وبين القانون والمجتمع وبين التاريخ والسياسة.
وفي ذات المنحى يمكن أن نشير للمسار الذي قطعه البشري، متفاعلاً مع أفكار زمنه وقضاياه وأيديولوجياته، بحس تأملي ينزع إلى النقد وإعادة التركيب بأفق علمي وفكري متجرد دون الانغماس في ضيق الأيديولوجيا، ونعني بذلك كونه مفكراً مخضرماً جايل مرحلة المد القومي والاشتراكي، فكان أحد المتأثرين بطبيعة مقولاته في النهضة والتقدم والتحديث، إلى أن وقعت نكسة يونيو/حزيران 1967، مما فرض على البشري ومثقفي تلك المرحلة مراجعة مقولاتهم النظرية، بضرورة استعادة التراث ومواءمته مع العصر في أي مقاربة لإشكالات التقدم، والذي يمكن تتبعه قراءته المستبصرة للمراحل التي عرفت فيها مجتمعاتنا العربية مساعي التحديث ومحاولات النهضة، حيث يسجل البشري نقداً عميقاً لسلبيات تفكيك المؤسسات والبنيات الاجتماعية التقليدية التي كانت تعبر عن طبيعة الإنسان والمجتمع وخصائص تكوينه، وفي ذلك لم يكُن البشري ذا نزعة محافظة، إنما كان يرصد بعض معالم القصور والإخفاق بفعل عدم القيام بالإصلاح الفكري في المركز خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، مما جعل التحديث يكون مصحوباً بجملة من التوترات الاجتماعية والثقافية التي ما زالت مستمرة إلى الآن.
غير أن طارق البشري كان من القلة التي لم تقتصر مراجعتها لاستعادة التراث ومصالحته مع روح العصر في تحقيق النهضة العربية، إنما ولج أفق المدرسة الحضارية الإسلامية دون أن يتلون بلون أيديولوجي معين من الأيديولوجيات الإسلامية، بل كان أفقه في التنظير والممارسة يسع الجميع، ليس بتكوينه العلمي المتنوع وحسب، إنما كذلك بمرونته التي يؤطرها مبدأ "الأقل حدة يكون أكثر قدرة على التخلل" حسب تعبيره، وهو يبدي رأيه في أمين الخولي ورجات التجديد الفكري والمخاض الثقافي التي اصطبغت بها البيئة الثقافية المصرية في عقود مضت.
إن استعادة طبيعة المقاربات التي خص بها البشري جملة من القضايا، لا تزال لها الراهنية، باعتبار البشري كان يصدر آراءه وأطروحاته، بالاعتماد على خلفيات علمية متنوعة، غير منغمسة في الصراع الأيديولوجي، بل مهجوسة بأفق الوحدة والاستقلال والوطنية، دون أن تغفل عن محورية الإصلاح والتجديد الفكري وتحديث النظم والمؤسسات وفق صيرورة تتفاعل فيها مكونات الذات الحضارية مع روح العصر، بالإفادة من دفق التاريخ وديناميات التيار الأساسي السائد في المجتمع. وهذا ما سنفرد له مقالة خاصة لأهميته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.