التبس مفهوم "اليسار"، في العالم العربي، سيما في الموقف إزاء ثورات الربيع العربي، سيما ما تعلق بالثورة السورية، وفيما تعلق بتغطيته مشاركة حزب الله في قتل السوريين، ومحاباة سياسات إيران في المشرق العربي. بيد أن ذلك هو قمة الجبل في تخلخل مفهوم اليسار في العالم العربي، بعد الصدمة المتحققة مع انهيار الاتحاد السوفييتي (السابق)، مطلع التسعينيات.
وفي الواقع فإن مفهوم "اليسار"، والقصد التيارات الحزبية اليسارية، يحيل إلى جملة من المفاهيم، والقضايا، ضمنها النظرة إلى المجتمع وفق التقسيمات الطبقية، واعتبار الصراع الطبقي بمثابة المحرك للتاريخ، ارتباطاً بالصراع ضد نمط الإنتاج الرأسمالي، لتقويض سلطة البرجوازية المحلية، والتخلص من هيمنة الإمبريالية العالمية.
وبالطبع فإن قضية اليسار، في غضون كل ذلك، تتمثل في انتزاع السلطة، كما يفترض، لإقامة العدالة الاجتماعية، في دولة اشتراكية، تقودها الطبقة العاملة، من خلال حزبها، وفي إطار من التحالف، ربما، مع الفلاحين والمثقفين الثوريين. أيضاً كانت قضية فلسطين باتت، أيضاً، على أجندة الأحزاب والحركات اليسارية العربية، مع صعود المقاومة الفلسطينية، بخاصة مع بروز الجبهتين اليساريتين (الديمقراطية والشعبية)، باعتبار إسرائيل مجرد قاعدة من قواعد الإمبريالية في المنطقة.
هكذا عشنا عقوداً على مقرّرات اللجان المركزية للأحزاب الشيوعية واليسارية، وبياناتها، وأدبياتها، التي كانت تتحدث بيقينية مدهشة عن سمة العصر، التي تتمثل بأفول الرأسمالية وانتصار الاشتراكية، بفضل تضافر وصعود قوى العملية الثورية الثلاث، أي المنظومة الاشتراكية، والأحزاب الشيوعية في البلدان الرأسمالية، وحركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة، والتي أضيف إليها "النظم الديمقراطية الثورية"، أو بلدان "التطور اللارأسمالي"، التي باتت تشمل سوريا والعراق وليبيا!
كانت تلك هي الترسيمة المعهودة، التي وسمت كل الإنشاءات السياسية الصادرة عن معظم تشكيلات اليسار في العالم العربي، والتي شكّلت هويتها السياسية، والفكرية، ردحاً طويلاً من الزمن.
ومعلوم أن تشكيلات اليسار السائدة هذه لم تتحول إلى تيار فاعل في الحياة السياسية العربية، فهي لم تصل إلى السلطة في أي بلد، باستثناء "اليمن الديمقراطي"، ولم تستطِع حتى المشاركة في الحكم، بل إنها فوق ذلك انحسرت كثيراً.
هكذا، لا يمكن تفسير ذلك بانهيار الاتحاد السوفييتي (السابق)، فهذا على أهميته لا يكفي، إذ إن ضياع تشكيلات اليسار وفقدانها لهويتها، حصل قبل ذلك بكثير، ولأسباب تتعلق بغربتها عن الواقع، وعدم تمثلها لأحوال مجتمعاتها، وتخليها عن قضيتها وعن دورها السياسي. والحال فإن تنظيمات "اليسار" في البلدان العربية، في أغلب الأحوال، لم تقدم نقداً سياسياً للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي العربي، إلا في حالات نادرة، ومن شخصيات يسارية مستقلة، أو منشقة، مثل إلياس مرقص وياسين الحافظ وعبدالله العروي وفؤاد مرسي وجورج طرابيشي ومهدي عامل.
وقد أخذ هؤلاء على الماركسية – اللينينية عدم إيمانها بالديمقراطية، واستهتارها بقيمة الحرية، وهو المأخذ ذاته الذي أخذته حنة أرندت على الماركسية، كما أخذوا على الأحزاب والقوى الشيوعية أو اليسارية استسهالها نسخ النظرية الماركسية على الواقع العربي، والتعامل معها كأيديولوجيا جاهزة ومغلقة، أو كدين آخر يتأسس على الإيمان، لا على الدراسة والشكّ وإمعان التفكير.
ثمة شيء يثير الاستغراب في الادعاءات السياسية للقوى اليسارية، فالمجتمعات المعنية لم تصل بعد إلى المستوى اللازم من التطور الطبقي، والطبقة العاملة (البروليتاريا) مجرد "أقلية" في المجتمع، والأهم أن المجتمعات العربية، منقسمة على نفسها، على أسس هوياتية دينية أو مذهبية أو عشائرية أو مناطقية، بدل الانقسام بشكل أفقي على المصالح والسياسات، مثلما هو واضح هذه الأيام؛ وفي المحصلة فإن الفقراء يتصارعون أو يتقاتلون مع الفقراء، في حرب الضحايا ضد الضحايا.
المفارقة أن إدراك هذه الحقائق جد سهل وبسيط، وفي متناول الجميع. فحسب معطيات التقرير الاقتصادي العربي (2018)، فإن نسبة العاملين في الصناعة في العالم العربي تبلغ نحو 18%، فقط، من حجم القوى العاملة، وهذا يعني أن "البروليتاريا" لا تشكل أكثرية بين الطبقة العاملة، حيث العاملون في قطاعات الخدمات يشكلون النسبة الأكبر (60%)، ناهيك أن معظم القوى العاملة العربية لا ترتبط بالصناعات العالية، أي المرتبطة بالتقدم العلمي والتكنولوجي. فوق ذلك فإن نسبة مساهمة الصناعة (التحويلية) في الناتج السنوي الإجمالي للبلدان العربية تقدر بـ9% فقط، ما يفيد بأن الطبقة العاملة العربية التي تشتغل في الصناعة، لا تحتل موقعاً متقدماً في الإنتاج الوطني، في اقتصاد يعتمد على الريع النفطي (بنسبة 40%)، وهذا ما تدلل عليه أيضاً، القيمة المتدنّية للصادرات الصناعية التي لا تتجاوز الـ10% من الصادرات.
أما في السياسة، فثمة ثلاث مشكلات كبيرة في المعتقدات "اليسارية" السائدة، وكلها تمخّضت عن كوارث، أولاها ديكتاتورية البروليتاريا، التي شرّعت اختزال الشعب في طبقة ثم في حزب، وبعده في مكتب سياسي أو أمين عام، وكانت بمثابة وصفة لمصادرة الحريات الفردية وسيادة الاستبداد. وثاني هذه الأفكار تتمثّل في الانتقال إلى الاشتراكية، ولو في أكثر الحلقات الرأسمالية تخلفاً (عكس فكرة ماركس الأساسية عن قيام الاشتراكية في أكثر البلدان الرأسمالية تقدماً)، وهذه الفكرة التي تحرق المراحل لم تثبت أيضاً، بدليل إخفاق الاتحاد السوفييتي، في المباراة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، وانهيار النظام الاشتراكي بطريقة سلمية ومن الداخل. أما الفكرة الثالثة فتقول بجواز الانتقال إلى مرحلة الثورة الاشتراكية من دون المرور بمرحلة الثورة البرجوازية الديمقراطية.
القصد من كل ذلك القول إن مشكلة "اليسار" قديمة، وليست وليدة الثورات العربية، التي ربما كشفته أكثر من أي وقت مضى، في تماهيه مع نظام الاستبداد الأسدي، بدعوى صد المؤامرة الإمبريالية، أو تبييضه صفحة حزب الله، الذي يقاتل السوريين، بدعوى الحفاظ على مقاومة متوقفة منذ 13 عاماً! وفي الحقيقة فإن "يساراً" كهذا كان فقد ملامحه، وأضاع هويته، منذ زمن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.