في لقاء مطول له مع الإعلامي عبدالله المديفر، بتاريخ الثاني من مارس/آذار الجاري، أطل علينا وزير الدولة السعودي للشؤون الإفريقية، وسفير السعودية السابق لدى مصر، أحمد عبدالعزيز قطان. بدا الرجل بنمط تفكير مشابه حد التطابق مع التيار الدولتي المصري الأصيل، حيث اعتبر كل حدث لا يستوعبه ولا يدرك كافة أبعاده، اعتبره مؤامرة كونية ضده وضد بلاده. كما يظهر في حديثه نفس مجموعة الأفكار الشعبوية الممزوجة بالأساطير عن السياسة الخارجية والأمن القومي، التي أردت مصر والعديد من بلدان المنطقة العربية لمصاف الدول المتحللة وحولتها إلى ملعب إقليمي كبير.
السعودية ومندوبها السامي في القاهرة
تناول القطان في حديثه الداخل المصري بطريقة تشي بتضخم الدور والنفوذ السعودي فيه حتى إنه يتلقى بيانات رسمية من قبل عدة جهات مصرية. طالت سنوات خدمة الرجل في القاهرة لأكثر من عقد من الزمان جمع فيه بين منصب السفير ومندوب المملكة لدى الجامعة العربية، وربما كان الشخص الوحيد من خارج الأسرة الحاكمة الذي حظي بتلك المناصب الحساسة.
قدم القطان نفسه كشخصية نافذة في الدولة المصرية على كافة المستويات، إذ تجمعه علاقات قوية بالوسط الإعلامي المصري والدبلوماسيين وقيادات عسكرية وبكافة المسؤولين في الحكومة المصرية، وحتى على مستوى رئاسة الجمهورية، الجميع يسترضونه ويحسبون له ألف حساب. لا شك أن هذا الادعاء له بعض الأسس الموضوعية، فالرجل كان له ظهور واضح في القنوات المصرية المحسوبة على الدولة العميقة والمملوكة فعلياً للمملكة السعودية وحلفائها، كذلك فإن السفارة في عهده كانت أكثر من السفارات نشاطاً، كما سربت ويكليكس قوائم لمن يتقاضون رواتب ومكافآت من السفارة السعودية ضمت العديد من الرموز الإعلامية والأكاديمية المقربة من النظام المصري بل مسؤولين كباراً في وزارة الخارجية كان من ضمنهم مصطفى الفقي الذي ظل إلى وقت قريب حارس البوابة والمتحكم الفعلي في الدخول والخروج من السلك الدبلوماسي المصري وحركة الترقيات بداخله.
كان الرجل- أي القطان- في الحقيقة يتصرف باعتباره مندوباً سامياً سعودياً في القاهرة، مع ذلك فقد ظل شخصية جدلية، ومثيره للأزمات والشبهات في الداخل السعودي، إذ اعتبر بعض السعوديين أن المملكة قد عينت مصرياً كسفير لها في القاهرة، وهو ادعاء صحيح بدرجة ما، إذ تم ابتعاث القطان وهو ابن الست سنوات فقط إلى القاهرة عام 1959، للالتحاق بمدرسة نوال الدجوي في القاهرة التي قضى طفولته ومراهقته وشبابه فيها إلى أن تخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة عام 1978.
وظل قطاع كبير من السعوديين دائمي الانتقاد لأداء السفارة في القاهرة خلال كل أزمة تمر بها العلاقات الثنائية، باعتبار أن قطان سيبدأ على الفور في تبرير وجهة نظر الحكومة المصرية، على أساس "تمصره"، وأن معظم العاملين في دوائر الأمن القومي بمصر هم أصدقاؤه وزملاؤه منذ سنوات طويلة. ووصل الهجوم على شخصه لذروته خلال أزمة سجن أحمد الجيزاوي في إبريل/نيسان 2012، حيث واجه انتقادات سعودية واسعة، تبلورت بانسحابه من الحلقة الشهيرة في برنامج داوود الشريان على قناة MBC بتاريخ ٣٠ إبريل/نيسان ٢٠١٢، وهاجمته الصحف السعودية كلها في اليوم التالي، لأنه انسحب من الحلقة حتى لا يُغضِب أصدقاءه المصريين.
وواجه القطان والسفارة السعودية احتجاجات مصرية كبيرة على خلفية قضية اعتقال المملكة للمحامي المصري أحمد الجيزاوي والتي حاولت المملكة تحويلها لقضية اتجار بالمخدرات فيما تحدثت تقارير حقوقية وإعلامية دولية عن كونها بسبب "دعوى أمام القضاء المصري اختصم فيها الملك عبدالله والسلطات السعودية واتهمهم باعتقال مصريين بشكل تعسفي وتعذيبهم"، وهي القضية التي أغلقت بسببها السفارة واستدعي السفير، وكانت بداية لإعلان حنق القطان وأصدقائه المصريين المقربين على كل ما يتعلق بالثورة المصرية.
وعلى غير عادته من التماهي مع المواقف المصرية، بدا القطان في حديثه مع الإعلامي عبدالله المديفر ناقداً للسيطرة المصرية على الجامعة العربية، وداعياً لكيان يجمع دول البحر الأحمر تكون للسعودية السيطرة فيه باعتبارها صاحبة الشواطئ الأطول عليه، كذلك بدا مفتتاً للترتيبات العربية مع القارة الإفريقية بمحاولة ترتيبه مع ولي العهد السعودي لقمة سعودية إفريقية قبيل انعقاد القمة العربية الإفريقية المقبلة.
وتعاني الآن الرياض من تذبذب كبير في علاقتها مع نظام 3 يوليو بقيادة عبدالفتاح السيسي رغم قيام ما يشبه حلف استراتيجي بين الدولتين استمر حتى عام ٢٠١٦. إذ بدأت العلاقة في الاهتزاز إثر امتعاض مصري على انخفاض الإعانات والاستثمارات السعودية في القاهرة والتراجع عن كثير من وعود مؤتمر دعم الاقتصاد المصري، وصولاً للحل الفجائي للأزمة الخليجية من دون التوافق مع مصر، والآن ترد مصر الضربة بالسكوت عن تقرير المخابرات الأمريكية الذي حمَّل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مسؤولية اغتيال الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
السفير الذي يتم إبلاغه بنتائج الانتخابات قبل غيره
في حديث القطان مع عبدالله المديفر تكلم عن إبلاغه، رسمياً، بفوز الفريق أحمد شفيق بالانتخابات الرئاسية المصرية عام 2012 وقال إن "آن باترسون"، السفيرة الأمريكية بالقاهرة وقتها، هي من تدخلت لإعلان فوز الرئيس مرسي. وتلك هي الرواية الرسمية لأنصار الفريق أحمد شفيق والتي يتحفظ عليها السيسي والمجلس العسكري لأنها تدينهم وتدين المؤسسة القضائية المصرية ولجنة الانتخابات أكثر من غيرهم. ولا يخفى على القطان حساسية صديقه عبدالفتاح السيسي تجاه ذلك الملف وغيره من ملفات الشرعية الشعبية والسياسية. ولقد سعى الفريق شفيق ومحاميه الدكتور شوقي السيد، لإثبات ذلك التزوير بكل الطرق تقليلاً من شرعية عبدالفتاح السيسي، في الوقت الذي كان يواجه فيه جبهات داخلية أخرى مثل جبهة الفريق سامي عنان وكذلك بعض القوى الثورية المحتجة على تخليه عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية، وهو القرار الذي واجه بسببه احتجاجات شعبية "محدودة" بسبب القمع الأمني، إلا أنها لو لاقت دعماً فعالاً من داخل الدولة المصرية لكان حكم الرئيس السيسي في خبر كان.
وبذلك الحديث الخطر والحساس، يتهم القطان المجلس العسكري بقيادة المشير حسين طنطاوي، وعضوية اللواء عبدالفتاح السيسي بتزوير الانتخابات الرئاسية الأولى بعد الثورة.
بالعودة إلى الماضي القريب، نتذكر أنه كان هنالك قلق وتخوفات لدى قوى الثورة وجماعة الإخوان المسلمين من أن يحدث تزوير لنتيجة الانتخابات، لذا قامت حملة الرئيس الراحل مرسي، بجمع نتائج اللجان الفرعية من خلال المحاضر الرسمية، وإعلان نتيجة الانتخابات وفقاً لتلك المحاضر حتى لا يتم التلاعب بها، وهي حركة أربكت حسابات المجلس العسكري وشفيق وأنصار النظام السابق. وكانت النتيجة شبه متطابقة مع ما أعلنته اللجنة العليا للانتخابات آنذاك، وكلتاهما أعلنت فوز محمد مرسي بالانتخابات.
الملف الثاني الذي أثير في الحوار ويخص مصر بشدة هو أزمة سد النهضة، فطبقاً لكلام الوزير القطان، فلا بد من حوار ترعاه السعودية بين الأطراف في تلك الأزمة للتوصل لحلول وسط. ويشير القطان إلى أن السيسي حكى له ما لم يحكه لأي مسؤول مصري آخر، وأطلعه على إحصائيات توضح أن اكتمال سد النهضة كارثة على مصر، وسيؤدي لخرابها. وهو ما يتناقض مع الموقف الرسمي المصري الذي يعتمد التهدئة مع إثيوبيا والذي وبناء عليه وقع السيسي إعلان المبادئ معها بالمخالفة لتوجهات فنية وبيروقراطية سابقة.
وعند التعريج على موضوع تيران وصنافير، فطبقاً لكلام الوزير القطان، فإن هناك "عملاء مصريين" للسعودية، وهم متنفذون في الدوائر المصرية المختلفة، بعضهم كانوا يقترحون على السعودية شكوى مصر في الأمم المتحدة لانتزاع الجزر من مصر، بالإضافة لعملاء آخرين يدعمون الموقف السعودي بالكامل، في إشارة لمصطفى الفقي ومصطفى بكري.
وتلك الوقائع التي أشار إليها القطان هي وقائع لو كانت في دولة تتوفر لديها الحدود الدنيا من المؤسسية والنزاهة، فهي كفيلة بإسقاط النظام وتحويل رموزه لمحاكمات عاجلة بتهمة الخيانة العظمى، باعتباره نظاماً مخترقاً على كافة المستويات.
وعلى أقل تقدير فإن الشخصيات التي ذكرها القطان في حديثه وتلك التي تناولتها وثائق ويكليكس كانت لتتعرض لمحاكمات ولو صورية في ظل نظام مبارك على سبيل المثال.
لماذا الآن تأتي تصريحات القطان
بعد وقت قصير جداً من التقرير الذي أعدته الخارجية الأمريكية للكونغرس في ٢٦ من فبراير/شباط، بشأن محاسبة قتلة خاشقجي والذي يدين محمد بن سلمان بشخصه مع 76 مسؤولاً سعودياً من المقربين منه، ويقرر منعهم من دخول الأراضي الأمريكية، في إطار ما يعرف بسياسة "Khashoggi Ban" وتسمح تلك السياسة لوزارة الخارجية بفرض قيود على التأشيرات على الأفراد الذين يُعتقد أنهم شاركوا، نيابة عن حكومة أجنبية، بشكل مباشر في أنشطة جادّة مناهضة للمعارضين خارج الحدود الإقليمية، بما في ذلك قمع ومضايقة ومراقبة وتهديد أو الإضرار بالصحفيين أو النشطاء أو غيرهم من الأشخاص الذين يُنظر إليهم على أنهم معارضون، بسبب نشاطهم. كما تشمل تلك السياسة أولئك الذين ينخرطون في مثل تلك الأنشطة ضدّ عائلات هؤلاء الناشطين والمعارضين أو المقربين منهم. ويمكن لسياسة تقييد التأشيرة هذه أن تمتدّ لتشمل أفراد عائلات الأفراد الذين يقومون بتلك الممارسات، عند الاقتضاء، وهي تشكل نقلة نوعية في قضية خاشقجي قد يتبعها اتخاذ تدابير مماثلة من قبل بعض الدول الأوروبية، ما يجعل مستقبل ولي العهد السعودي غامضاً، ويقتضى تغييرات كبيرة داخل الأسرة الحاكمة السعودية لتفادي العداء مع الولايات المتحدة الحليف التقليدي للمملكة.
وفي ذلك الإطار تستجدي السعودية تضامناً مصرياً وعربياً معها في الأزمة الحالية مع إدارة بايدن حتى تخرج منها بأقل الخسائر الممكنة، وليس أدل على هذا من التصريحات المبتذلة لأمين عام الجامعة العربية حول بن سلمان باعتباره رجلاً حكيماً يعمل من أجل أمته، وهي توصيفات ربما يستحي ممثل السعودية في الجامعة العربية أن يطلقها في وقت يمثل فيه بن سلمان عثرة في طريق ومستقبل المملكة وسياساتها في المنطقة.
ومن حيث لا يدري فإن القطان يدين السعودية بالتدخل السافر في الشؤون الداخلية المصرية، ويدين حلفاءها بالقاهرة من أعضاء المجلس العسكرى والنخبة السياسية والإعلامية التي كانت كثيرة التردد على مقر السفارة ومنزل الرجل في حفلات لم تنقطع حتى رحيله. حفلات واجتماعات سرب بعضها للإعلام وبقي الكثير منها سراً إلى أن يستفز حاضريه ويتكلموا ليخبرونا عما كانوا يحيكون ضد الثورة في منزل القطان ومقر سفارته.
لئن كان القطان يعرض وساطة على مصر في قضية سد النهضة فإنه يعرّض النظام المصري ذاته لهزة عنيفة قد تكون مقصودة لتذكيره بأن لا بقاء له من دون السعودية المتحكمة في الكثير من ملفاته في الداخل والخارج، لكن هذا النمط من الابتزاز السعودي غير مضمون العواقب، فصحيح أنه قد يدفع باتجاه تخندق مصر والسعودية في مواجهة إدارة بايدن للحد من تأثير ضغوطها على النظامين، لكنه قد يقود لأن تسير القاهرة في طريق منفرد بعيداً عن الابتزاز السعودي. إذ لم تقف مصر حتى الآن موقفاً جاداً مع السعودية في وجه قرارات وتوجهات الإدارة الأمريكية الجديدة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.