كُتب الكثير والكثير عن نور الدين زنكي قبل دمار مئذنة الجامع النوري في الموصل، لكن لم أكن أتخيل أن أيدي الشر ستأتي عليها بالدمار والتخريب، كما أتت على تراث الموصل، المدينة التي تعتبر واحدة من أكثر البقاع الإسلامية بسالة في التصدي للغزاة والمعتدين، مستندة إلى وحدة كافة أعراقها من عرب وكرد وتركمان وغيرهم، ويشهد التاريخ أن مسيحيي الموصل تصدوا لغزو نادر شاه لمدينتهم عام 1743.
يقترن تحرير بيت المقدس (583هـ – 1187م) من أيدي الصليبيين بشخصية (الرجل – الظاهرة) صلاح الدين الأيوبي، وهنا سنقف على الظروف التي عاشها صلاح الدين الأيوبي والتي ساهمت في ظهوره على مسرح أحداث التاريخ وأهمها مسيرة شخصية سلفه نور الدين محمود زنكي.
ومن أهم الدروس المستقاة من حقبة الحروب الصليبية، ظهور التكافل القومي للمسلمين في ظل تكاتفهم وتآزرهم لخدمة قضاياهم بعيداً عن التعصب العرقي والعنصرية. ولا أدل على ذلك من أن انتصارات صلاح الدين الأيوبي (الكردي) كانت ثمرة لشجرة غرسها ورعاها نور الدين زنكي (التركي) في توحيد العالم الإسلامي فكلاهما خدما قضية واحدة من منطلق واحد، ولم تقف القومية عائقاً أمامها.
يقول ابن الأثير: "إني طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وبعده فلم أرَ فيه بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ملكاً أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه"، ويقول ابن العماد: "كان أجلّ ملوك زمانه وأعدلهم وأدينهم وأكثرهم جهاداً وأسعدهم في دنياه وآخرته".
ولد نور الدين محمود زنكي عام (511هـ – 1118م)، في مدينة حلب ووالده عماد الدين زنكي مؤسس الدولة الأتابكية في الموصل تحت ظل الخلافة العباسية، حيث كان جده آق سنقر والياً سلجوقياً على شمال الشام، وترجع أصولهم الى قبيلة "ساب يو" التركية.
وبينما أصيبت الإمارة السلجوقية بالضعف حالها حال الخلافة العباسية في ذلك الزمن، كان يتدرج عماد الدين في المناصب حتى أصبح والياً على الموصل وأرسى دعائم دولته (521هـ – 1128) مستمداً شرعيتها من الخلافة العباسية.
وفي ذلك الزمن كان الشرق موزعاً بين الخلافة العباسية ومقرها بغداد والخلافة الفاطمية في مصر، وجحافل الصليبيين القادمين من أوروبا الذين أسسوا عدة إمارات أهمها أمارة بيت المقدس بعد مذابح ذهب ضحيتها أربعون ألفاً من المسلمين، ناهيك عن أنه كان في أقصى الشرق وبلاد فارس وخراسان دولة الباطنية "الحشاشين" التي انشقت عن الدولة الفاطمية والتي أسسها الحسن الصباح (423هـ – 1090م)، التي وضعت نصب عينيها الانتقام من السلاجقة، أما في مصر والشام فكانت للدولة الفاطمية اليد الطولى، وكان الشرق على هذا مشتتاً بين عدة قوى متصارعة.
بدأت طلائع الجهاد ضد الصليبيين من الموصل عندما خرج أميرها السلجوقي مودود بن التونتكين يتصدى للغزاة قبل تأسيس الإمارة الزنكية، وكان عماد الدين زنكي ضمن جيوش مودود ويعمل معه ويشارك في كل المعارك التي جرت ضد الصليبيين في الشام.
عاش نور الدين في كنف والده الذي نذر نفسه للجهاد، وفي عام (524هـ)، تم إبعاد الصليبيين عن مشارف حمص، ثم جاءت الضربة القاضية بتحرير مدينة الرها وعاصمة إمارتها عام (539هـ – 1146م). أي عندما كان نور الدين شاباً يافعاً يتعلم من والده فنون الحرب ومكارم الأخلاق، وكانت تلك أول إمارة صليبية تسقط بيد المسلمين.
لكن لم يغفر الباطنيون لعماد الدين انتصاراته فقد تم اغتياله عام (541هـ – 1146م) وهو يؤدي صلاة الجمعة. وبوفاة عماد الدين صار ولديه سيف الدين غازي على ولاية الموصل ونور الدين محمود على حلب، وكانا على علاقة وطيدة تم بموجبها استرجاع إمارة الرها مرة ثانية بعد أن استردها الصليبيون مرة أخرى بعد هزيمتهم الأولى.
وضع نور الدين محمود نصب عينيه توحيد الأمة واسترجاع بيت المقدس وكان أكثر حنكة من والده وشقيقه، فقد تمكن عام (542هـ – 1148م)، من الاستيلاء على عدة حصون تابعة لولاية أنطاكية الصليبية آنذاك.
وفي نفس العام انطلقت الحملة الصليبية الثانية التي تعرضت للإبادة على يد سلاجقة الروم وتم الإجهاز على البقية في الشام من قبل الأخوين سيف الدين غازي ونور الدين محمود قرب حماة.
صار نور الدين مشهوراً على مستوى الشرق خصوصاً بعد وفاة أخيه سيف الدين غازي وذلك لعدله وحكمته والتزامه الشديد بالشريعة وشجاعته وحرصه على مقاومة الغزاة والباطنية على حدٍّ سواء عسكرياً وسياسياً وبكل السبل.
في عام (548هـ – 1154م)، تمكن نور الدين من دخول دمشق بدون قتال بعد أن يئس أهلها من حكامها الصليبيين ولهثهم وراء مصالحهم الخاصة، وهكذا بدأت الشام المتشرذمة على شكل دويلات و إقطاعيات تلتئم مع بلاد الجزيرة والموصل، والعيون تتطلع إلى مصر لضمها ومن ثم يكون تحرير بيت المقدس أمراً حتمياً، فقد كانت الدولة الفاطمية على وشك السقوط بعد أن عصفت الخلافات بين أركانها وانتشر الفساد والضعف في أرجائها.
استغل نور الدين طلب الوزير الفاطمي "شاور" مساعدته في خلافه على الوزارة مع آخر يدعى "ضرغام"، فأرسل نور الدين أحد قادة جيشه "أسد الدين شيركوه" وهو عم صلاح الدين على رأس حملة إلى مصر وأعاد "شاور" وقتل "ضرغام" وأسس نور الدين موطئ قدم له في مصر.
تنكر شاور لأسد الدين فاستنجد بالصليبيين، حيث هزمهم أسد الدين شيركوه في معركة "البابين" في صعيد مصر واستولى على الإسكندرية وترك فيها حامية بقيادة صلاح الدين الأيوبي.
وأصبح أسد الدين سيد مصر وأسند له نور الدين الوزارة الفاطمية، وهي في أوج ضعفها على عهد الخليفة العاضد، آخر الخلفاء الفاطميين.
وفي عام (564هـ)، توفي أسد الدين فانتقلت الوزارة لابن أخيه صلاح الدين.
أصبحت مصر في قبضة نور الدين وغايته توحيد الجهود وتوحيد المسلمين، فأخذ يلح على صلاح الدين لإنهاء الدولة الفاطمية فيها، وفي الوقت نفسه لم يتوقف عن إرسال الغزوات ضد الصليبيين لاستنزافهم وصرف جهودهم عن مصر، ويوطد علاقته مع الخلافة العباسية لأخذ الدعم المعنوي منها لا غير.
وفي أول جمعة من محرم عام (567هـ) صعد المنبر قبل الخطبة في المسجد الجامع بالقاهرة، رجل متصوف قدم من الموصل وألقى خطبة الجمعة وذكر فيها اسم الخليفة العباسي ولم يذكر اسم الخليفة الفاطمي لتنتهي تلك الخلافة ويتوحد المشرق في انتظار معركة بيت المقدس. وأخذت راية نور الدين ترفرف على خمس عواصم هي دمشق والرها وحلب والموصل والقاهرة.
ـوصى نور الدين بعمل منبر فاخر في حلب يأخذه معه عند تحرير بيت المقدس، ولكن المنية عاجلته في شوال (569هـ – 1174م)، عن ثمان وخمسين سنة بعد أن وحد المشرق ورسم خارطة الطريق لهزيمة الصليبيين، وكان لموته رجة عنيفة في العالم الإسلامي وتم دفنه في دمشق.
لكن أكمل صلاح الدين المشوار وأخذ المنبر عندما حرر بيت المقدس بعد معركة حطين (583هـ)، وصار يحمل اسمه حتى أتى عليه حريق الأقصى (1969م)، على يد الصهاينة.
إن المتمعن لتاريخ الحروب الصليبية يلاحظ دون عناء طغيان الظاهرة الدينية لدى الشعوب الإسلامية على الظاهرة القومية، فالدولة الأتابكية والسلاجقة كانوا تركماناً وخلفهم الأيوبيون الأكراد في تصديهم للغزاة كقادة، وتشترك معهم باقي الشعوب ومنهم العرب، تحت راية واحدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.