عبدالفتاح السيسي ليس ساذجاً، كما يظن البعض، بل هو رجل لديه مخطط واضح وكامل لتغيير شكل مصر للأبد، بدأه بالسياسة والاقتصاد، ويريد أن يكمله بتغيير مفاهيم دينية واجتماعية راسخة في المجتمع المصري منذ مئات السنين.
السيسي ليس مثل مبارك ولا حتى السادات، بل هو رجل لديه مشروع، هذا المشروع أقرب ما يكون لمشروع محمد علي باشا، الذي يتلخص في 5 كلمات: "بناء الدولة على أجساد الشعب"، وهو نفس نموذج عبدالناصر الذي انتهى بكارثة النكسة، فتلك النماذج كانت تعتمد على القرارات العسكرية الحاسمة لمعالجة مشكلات تحتاج لمرونة وحوار ولا يمكن حلُّها بالإكراه.
وقد ينتج عن "القوانين" والقرارات الصارمة نتيجة مؤقتة جيدة، لكن سرعان ما يحدث الانهيار الكبير بعدها، مثلما حدث في السابق، أو يحدث انفجار لا تُحمد عقباه، خاصة عندما يتم تغيير شكل المجتمع بقوانين، ومحاولة تشكيله من جديد.
معاملة الشعب معاملة ضابط الجيش لجنوده قد تؤدي لنتائج إيجابية مؤقتة كالانضباط بسبب الخوف من العقاب، لكن النتيجة النهائية ستكون انفجاراً أو انهياراً للمجتمع، وهو ما حدث في عهد محمد علي باشا، فرغم النهضة الاقتصادية والعسكرية كانت النتيجة النهائية تدميراً لكوادر المجتمع، مما سهَّل مهمة الغزو البريطاني، وانهيار الدولة أمام التدخل الأجنبي بالنهاية، وعدم مقاومة المجتمع له.
الحرب على "الإرهاب" السكاني:
وكأنَّ الحرب قد أعلنت الأسبوع الماضي على أعراف المجتمع المصري لتغييرها، فالحكومة وافقت على قانون ليسجن الذي يريد التزوج بثانية دون إخطار، ويسمح للمرأة أن تتزوج بدون وليّ، ومحاولات متكررة لجعل الطلاق لا يقع قانوناً إلا أمام القاضي، والسعي لسن قوانين وحملات لتقليل عدد السكان، وهجمة مسعورة على الزيادة السكانية.
حتى إن السيسي صرَّح بأن أكبر خطرين يهددان مصر هما الإرهاب والزيادة السكانية، هذا التصريح يفسر ما ينوي السيسي فعله في المرحلة المقبلة.
فما حدث في الأيام الماضية من قِبَل السلطة وإعلامها في مصر، بالإضافة لعدد من القرارات التي اشتعلت وأغضبت المجتمع، مثل فرض التسجيل في الشهر العقاري، والتهديد بعدم توصيل المرافق لمن لا يسجل، وغيرها من القرارات التي أثارت جدلاً غير مسبوق في مصر.
ثورة السيسي لتغيير شكل المجتمع المصري:
أكاد أزعم أن الثورة الوحيدة التي حققت أهدافها السياسية في مصر بالعصر الحديث بعد حركة 1952 ما حدث بقيادة المشير عبدالفتاح السيسي في 3 يوليو/تموز 2013 بالانقلاب على الرئيس الراحل محمد مرسي، واجتثاث جماعة الإخوان بحملة دموية غير مسبوقة حتى في أوقات السجن الحربي وحمزة البسيوني وصلاح نصر.
في ظني أن مواجهة السيسي مع الوضع الديني والاجتماعي في مصر ستكون أصعب من مواجهته للوضع السياسي أو حتى ثورة محتملة ضده في يوم من الأيام.
فعبدالفتاح السيسي يدرك تماماً أنه لم يأتِ حاكم منذ فتح عمرو بن العاص لمصر سنة 642 ميلادياً مروراً بتغيير مصر "الرسمية" مذهبها من سُني عباسي لشيعي إسماعيلي على يد الفاطميين سنة 969م، لم تتغير الأعراف الراسخة للمصريين حتى اليوم مهما فعل الحكام، ومن حاول فعل هذا فشل.
نظرية الصدمة من الاقتصاد للهندسة الاجتماعية:
يحاول السيسي أن يدخل التاريخ بتغيير هيراركية المجتمع المصرية وعمل هندسة اجتماعية مستلهماً نماذج مثل الصين وكوريا الشمالية، ومستخدماً أدوات القمع والقانون لإجبار المصريين على ما يخطط له.
فبعد عملية الصدمة في الجانب الاقتصادي برفع الدعم بشكل شبه شامل عن الكهرباء والوقود والمياه والغاز وغيرها من الخدمات والسلع وتعويم الجنيه أمام الدولار، مما جعله يقفز من 8 إلى 18 جنيهاً في أيام معدودات ثم يدور سعره حول الـ16 جنيهاً، وعملية فرض ضرائب ورسوم على كل شيء تقريباً، مما جعل المصريين يكلمون أنفسهم في شوارع المحروسة، حان الوقت للصدمة الاجتماعية.
ورغم أن التأثيرات السلبية للصدمة الاقتصادية واضحة في الشارع رغم إنكار الحكومة حتى في بياناتها الرسمية بل وتأثيرها اجتماعياً على الناس، فإن السيسي يظن أنه نجح فيما فعله وأنقذ الاقتصاد.
نعم، تم توفير موارد مالية للحكومة، ولكن من جيوب مواطنيها وعبر تحرير الدعم والعملة وليس عبر مشاريع إنتاجية كبرى وعملية تصدير، كما يحدث في الدول الناجحة التي تريد النهوض من كبوتها مثل كوريا الجنوبية بعد الحرب الكبرى 1953، واليابان بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية، وتركيا بعد زلزال مرمرة العظيم سنة 1999، وغيرها من الدول التي خرجت من تحت الركام؛ لتتقدم لا بعقيدة الصدمة، بل بزيادة الصادرات وتقليل الواردات، والاعتماد على الاقتصاد الإنتاجي وليس الخدمي.
النجاح الجزئي لعقيدة الصدمة في مصر وعدم اندلاع احتجاجات ضخمة مثل التي حدثت في عهد السادات عام 1977 بعد قرار رفع الدعم بشكل جزئي، شجع السيسي على محاولة تطبيق التغييرات المفاجئة على المجتمع في جوانب أخرى، ومحاولة فتح أبواب مغلقة منذ قرون، وتغيير أعراف راسخة داخل المجتمع.
المحاولة الأولى.. "تعبتني يا فضيلة الإمام":
حاول السيسي في 2017 أولى تجاربه لتغيير أمر راسخ دينياً، هو الطلاق الشفهي، إلا أن محاولته مُنيت بالفشل الذريع وتحطمت على صخرة الأزهر الراسخة، التي رغم أنها لا تتصادم مع السيسي بشكل مباشر بل وتعلن تأييدها له، فإنها ترفض "التجديد الديني" بالشكل الذي يريده السيسي.
وكما قلت في مقالتي السابقة "لماذا تزايد الطلاق في عهد السيسي بهذا الشكل المرعب؟" إن معدلات بدأت في القفز بشكل غير مسبوق منذ عام 2014 وحتى اليوم، بالتزامن مع قرار تعويم الجنيه والإصلاح الاقتصادي وارتفاع التضخم.
فحاول السيسي حلها بأمر عسكري عبر محاولة تمرير قانون يفرض عدم الطلاق إلا أمام القاضي كما يحدث في دول علمانية وأوروبية ومحاولة تمرير هذا الأمر دينياً عبر الأزهر.
فلم يكن من الأزهر إلا أن رفض خلط الدين بالسياسة بمعناها السليم، فالسيسي يريد تطويع الدين لما يراه صواباً، وكان يظن أن الأزهر لأنه جزء من مشهد 3 يوليو/تموز، سيوافق على ما يراه، إلا أن الأزهر آثر الرفض على تغيير أمر شرعي أجمع عليه جمهور فقهاء أهل السنة.
بل وصعد الأزهر رفضه بإصدار هذا البيان الذي احتوى على اتهام واضح للسلطة بأنها السبب في التفكك الأسري وليس الفقه والدين، ففي بيان صادر عن هيئة كبار العلماء، قال الأزهر: "ليس الناس الآن في حاجةٍ إلى تغيير أحكام الطلاق، بقدر ما هم في حاجةٍ إلى البحث عن وسائل تُيسِّرُ سُبُلَ العيش الكريم".
رفض الأزهر محاولة السيسي جعلته يحاول إحراج شيخ الأزهر على الهواء بمقولة "تعبتني يا فضيلة الإمام"، التي أطلقها على أنها دعابة، ولكن فهمها شيخ الأزهر ومن بجواره في القاعة.
تلك المحاولة كانت الأبرز، وكانت اختباراً لمحاولات أخرى، وقد يظن البعض أن قضية الطلاق "هامشية" ولا تستحق هذا الصراع، ويتعجب البعض من صرامة الأزهر في تلك القضية، إلا أنني أظن أن الأزهر وقف بصلابة في محاولات تطويع الدين حتى لا يفتح الباب فيما هو أكبر، وهي خطوة موفقة للأزهر.
بعد تصدي الأزهر، حاول السيسي عبر أذرعه، بداية من 2017، عمل حملات ممنهجة ضد شيخ الأزهر، وتم تحريك البرلمان لمناقشة قانون "الأزهر"، الذي أثار جدلاً في هذا الوقت، فتصدى الأزهر وأنصاره للحملة المسعورة، وكان صمودهم دافعاً لفشل مشروع القانون وسحبه، وقررت أغلبية دعم مصر التأجيل بعد أن وقع 406 نواب على عريضة بعدم طرح مشروع قانون تعديل قانون الأزهر.
ورفضت محكمة القضاء الإداري نهاية أبريل/نيسان 2017 بمجلس الدولة دعوى تطالب بإصدار حكم قضائي يُلزم رئيس الوزراء بإعفاء شيخ الأزهر، أحمد الطيب، من منصبه.
وأكدت المحكمة، في أسباب حكمها، أن المادة السابعة من الدستور نصَّت على أن شيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء، وهذا يعني أن الدستور ضَمِنَ استقلال منصب الأزهر، وعدم قابليته للعزل، باعتبار الأزهر الهيئة العلمية الإسلامية الكبرى التي تقوم على حفظ التراث الإسلامي، ودراسته، وجعلته المرجع النهائي في كل ما يتعلق بشؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته.
وأضافت المحكمة: "كما أن القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي تشملها، لم يتضمن أي نص يُلزم الجهة الإدارية بإصدار قرار بإقالة شيخ الأزهر من منصبه، ومن ثَم لا يجوز إصدار قرار بإقالة شيخ الأزهر، ولهذا فإن المحكمة تُصدر حكمها بعدم قبول هذه الدعوى، لانتفاء القرار الإداري".
تبعت تلك المحاولة محاولات أخرى أبرزها خلال مناقشة التعديلات الدستورية في 2019، فتم تسريب أن مادة تحصين شيخ الأزهر دخلت المناقشة.
وتنص المادة السابعة من الدستور الحالي على أن الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية، ويتولى مسؤولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم.
وتلتزم الدولة، وفقاً لنص الدستور، بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه، وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء.
فشلت المحاولة كسابقتها، ولكنها كانت أكبر دليل على أن السيسي يحاول إزالة عقبة ما في طريق ثورته الدينية، لجأ لخيار آخر وهو استخدام المفتي ووزير الأوقاف لصالح الآراء الدينية التي يريدها السيسي.
حذف الدين تدريجياً من مواد التعليم بدعوى "الوحدة الوطنية"
ورغم أن مادة الدين من غير مجموع والنصوص الدينية الموجودة في مواد مثل اللغة العربية والتاريخ ليس فيها ما يغضب أحداً فإن السيسي عبر لجنة الأمن القومي في البرلمان أثار الجدل بمناقشة حذف نصوص إسلامية دينية ودمج المواد الدينية في مادة للوحدة الوطني في إطار هدف مجهول يسعى لعلمنة التعليم تدريجياً.
حيث ناقشت لجنة الدفاع والأمن القومي بالبرلمان -قبل أيام- خطة وزارة التربية والتعليم في مواجهة التطرف والإرهاب، بحضور رضا حجازي نائب وزير التعليم، حيث تم الترحيب بتدريس مادة جديدة تتعلق بالقيم المشتركة بين كل الأديان ومبادئ التسامح والمواطنة والعيش المشترك.
وصرح نائب وزير التعليم بأن هناك توجيهات لاقتصار النصوص الدينية على مادة الدين فقط في المستقبل، رداً على سؤال بوجود أمثلة لنصوص دينية في مناهج غير منهج الدين، حسب صحف محلية.
عضو لجنة الدفاع والأمن القومي النائب فريدي البياضي وصف وضع نصوص دينية في مواد اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا بأنه يشكل خطورة كبيرة، ويعطي مجالاً لمدرسين غير مؤهلين لتفسير تلك النصوص تفسيرات متطرفة.
ثار الشعب عبر مواقع التواصل ضد تلك المزاعم والمحاولات وتصاعدت الحملات المناهضة لحذف الدين، مما دفع بعد يومين من الجلسة، نائب وزير التعليم لنفي تصريحه السابق، وأكد أن ما يحدث هو تطوير للمناهج وليس حذفاً.
وكالعادة فشلت المحاولة الفجة أمام صخرة المجتمع "المتدين بطبعه" وإن كانت تنذر بما سيحدث الفترة القادمة، وأن هناك إرادة سياسية لا تهدأ ولا تكل من أجل فرض تغيير فكري واجتماعي، كما تم فرض التغيير الاقتصادي.
طفلان فقط وإلّا:
كان من المحاولات البارزة لفرض هندسة اجتماعية جديدة اندلاع حرب قومية على الزيادة السكانية بعد تصريحات السيسي يوم 16 فبراير/شباط أثناء افتتاح مشاريع في الإسماعيلية حيث حمل الشعب مسؤولية الفشل الاقتصادي وانتشار الفقر وعجز الدولة عن الإيفاء بالتزاماتها تجاه الشعب.
فقد اتهم السيسي الشعب بصراحة بأنه السبب في حالة الفقر والمشاكل الاجتماعية وليس سياسات الإصلاح الاقتصادي التي نفذها أو الفساد المستشري منذ نهاية عهد مبارك .
وقال السيسي في تصريحاته يومها: "أكثر من طفلين مشكلة كبيرة جداً لا نسعى لحل هذه المشكلة من خلال إصدار قوانين حادة.. مش كل الأمور ممكن تتعمل بشدة.. واحنا شغالين على برنامج لمواجهة الزيادة السكانية.. ونوفر الخدمات المطلوبة لهذا الأمر".
وأوضح أن معدل نمو السكان يجب أن يتناسب مع الموارد المتاحة للدولة، موضحاً أن الزيادة السكانية تؤثر بشكل سلبي على كل القطاعات.
بعد تصريحات السيسي انطلق الإعلام المصري والحكومة لمحاربة الزيادة السكانية ومهاجمة الشعب بضراوة وبشكل غير مسبوق، وكأن ساعة الصفر للحرب على النمو السكاني قد أتت وتم تحميلها مسؤولية كل المصائب التي حدثت في مصر.
والسؤال هنا: هل السيسي محق في تحميل الزيادة السكانية سبب ما حدث أم أن له هدف آخر من تخفيض النمو السكاني، في ظني أن دول عدة النمو السكاني فيها أكبر من مصر ومع هذا لم تحاربه بل حاولت استغلاله.
الغريب أن السيسي يحلل المشكلة بشكل عكسي يقول إن الشعب سبب الأزمة الاقتصادية وليس إجراءات الحكومة وانتشار الفقر والبطالة وانخفاض مستوى التعليم على عكس الدول المتقدمة اقتصادياً تجد أنه كلما ازدادت رفاهية الشعب وتراكم الثروات وزيادة جودة التعليم تنخفض معدلات المواليد لدرجة أن دول تضع حوافز على من ينجب.
في اليابان مثلاً تلك الدولة التي انتفضت من تحت ركام هيروشيما يبلغ عدد سكانها حالياً 126 مليون نسمة وفي مساحة 377,915 كيلومتراً، بينما مصر مليون كيلومتر، أي 3 أضعاف، ومع هذا اليابان لا تحارب عدد سكانها بل تراه قليلاً، فالرفاهية وانشغال الشعب بالعمل جعل هناك مشكلة في انخفاض عدد المواليد.
بل والمذهل أن اليابان تقدم حوافز مجزية لزيادة عدد المواليد ولدعم الزواج وتأسيس الأسر ودعم النمو السكاني عكس مصر، ولم تفرض أبداً أي ضغوط أو قيود أو حروب لتقليل عدد سكانها في أشد الأوقات فقراً أو غنى بل استغلت شعبها استغلال أمثل لتحقيق النهضة.
نموذج آخر قريب من مصر وكان يعاني من نفس الأزمات الاقتصادية قبل 2001 وانتشار للفساد والتضخم والبطالة وفشل المحليات هو النموذج التركي.
ورغم أن عدد سكان تركيا 64 مليوناً وقت بداية النهضة في 2001 ووصل إلى 83 مليوناً في 2020، أي زاد 19 مليوناً في 19 عاماً، فإن أردوغان عبر أكثر من مرة عن عدم رضاه من قلة المواليد وأصدر قرارات بزيادة الحوافز الداعمة لمن يريد الإنجاب ولم ينتقد أبداً النمو السكاني أو يحمّله مسؤولية أي مشكلة للدولة.
حتى إيران التي تعاني من مشاكل اقتصادية وحصار دولي ففي مايو 2014، أعلن المرشد الإيراني علي خامنئي أن السياسة السكانية يجب أن تعتمد على حيوية ونشاط شريحة الشباب مع زيادة معدل الإنجاب، وتذليل العقبات أمام الزواج وتسهيل تكوين العوائل وزيادة الأولاد وتقليل سن الزواج ودعم الأسر الشابة لتوفير مستلزمات الحياة.
وكرر تأكيده في سبتمبر/أيلول 2016، عاد المرشد الإيراني وكرر نفس الاستراتيجية السكانية، وطرحها على مجمع تشخيص مصلحة النظام، مشدداً على ضرورة تشجيع الزواج وزيادة الإنجاب حتى يكون المجتمع الإيراني مجتمعاً شاباً.
نستشف من كل النماذج السابقة أن الدول التي ظروفها شبيهة بظروف مصر لم تقلل الإنجاب وإنما استغلت الثروة السكانية، وكما قال أحمد زويل يوماً: "الزيادة السكانية ثروة قومية بشرط أن تعلمهم وتعطيهم فرصتهم في الحياة وستجدهم يتقدمون بوطنك".
وفي ظني ستفشل محاولات تقليل الزيادة السكانية سواء كان الهدف تقليلها من أجل ثمار الاقتصاد أو من أجل أي سبب آخر، فالقضية لن تأتي بأمر عسكري أو قانون أو حملات أو حتى توزيع وسائل تحديد النسل.
قانون الأحوال الشخصية الجديد وإعادة تشكيل الأسر:
كان مسك الختام في تلك المحاولات المضنية للنظام والسيسي في إعادة هندسة المجتمع هو موافقة الحكومة على قانون الأحوال الشخصية الجديد.
ونشرت صحيفة "اليوم السابع" مسودة القانون كاملة يوم موافقة الحكومة عليه، ثم حذفته بعد إثارته الجدل بين المواطنين وعلماء الدين لما فيه من محاولة لتفكيك تقاليد وأعراف راسخة في المجتمع بقوة القانون والعقوبات.
على سبيل المثال معاقبة الزوج الذي يتزوج ثانياً دون إخطار، ومعاقبة من يتزوج زواجاً مبكراً بالسجن، ووضع الزوج في المرتبة الرابعة من الحضانة للأطفال بعد الطلاق، والسماح بالزواج دون ولي للفتاة بشهود ومأذون فقط، والطلاق لا يعترف به رسمياً إلا بعد إقرار الطرفين أمام القاضي.. وغيرها من البنود المثيرة للجدل التي تبشر بمجتمع جديد في مصر.
قوبلت تلك البنود المثيرة برفض واسع وجدل أوسع من العلماء، حتى على التلفزيون الرسمي لم يقف معها أحداً؛ لأنها صادمة أكثر من الإصلاحات الاقتصادية صادمة وفي ظني لن يمر القانون بسهولة وسيتم تخفيف حدة البنود الصادمة امتصاصاً لغضب الأزهر المحتمل وغضب عامة الشعب.
إن إصرار النظام على اللعب في تلك المنطقة الحساسة لهو نذير شؤم على مصر بأكملها ومحاولة فرض أعراف للزواج والعلاقات الاجتماعية بالقوة لن تأتي إلا بآثار عكسية.
الإصلاح الاقتصادي وتأثيره على المجتمع
يكفي أن نعلم أن الآثار الاقتصادية والانفتاح قد حولوا المجتمع المصري لمجتمع آخر دون فرض قوانين اجتماعية صارمة فبسبب اقتصاد السوق الرأسمالي وتفشي الفساد والفقر انهارت الأسرة، فالأب أصبح يعمل دوامين من أجل سد رمق أولاده، والأم تعمل وتقضي باقي اليوم في تجهيز الطعام، والأطفال متروكون للإنترنت والإباحية والمدارس لتشكل وعيهم.
فكانت النتيجة كارثية، ما نراه من ظواهر في مجتمعنا لم تكن مسبوقة من قبل، تفشٍّ للتحرش والزنا واغتصاب الأطفال، وظاهرة التيك توك والعلاقات المحرمة للمراهقين، وانهيار الوعي الديني والأخلاقي، وتفشٍّ للإلحاد والتمرد على الدين والعادات والتقاليد.. وغيرها من الظواهر المُرة التي ظهرت نتيجة فقط التغيرات السياسية والاقتصادية، فماذا سيحدث عند التغيير الديني والاجتماعي؟
زادت الطبقة الفقيرة، وانهارت الطبقة المتوسطة، وانتعش اقتصاد المقاولات والسمسرة بالتزامن مع دخول الدولة في مشاريع المدن الجديدة، وما نتج عنها من انتشار لمهن معينة كثيفة العمالة، مثل عمال البناء والسائقين والمشرفين على العمال، التي تتطلب ساعات عمل كبيرة، ما تجعل من يمارسها لا يمكن أن يمارس عمله كأب ومربٍّ لأسرة.
ستأتي هذه القوانين لتجهز على ما تبقى من روابط اجتماعية وتفكك المجتمع المتفكك أصلاً، وتجعل الأسهل للناس ممارسة الجنس دون زواج، وزيادة العزوف عن بناء الأسرة؛ نظراً لتكلفتها الباهظة اجتماعياً واقتصادياً.
ما يحدث فعلاً يفكك نواة الدولة المصرية وهي الأسرة، وإذا فككت النواة انهار المجتمع والدولة وانتشرت ظواهر بشعة مرعبة لن يستطيع النظام بعدها السيطرة على الوضع ولو بقوة السلاح والقانون.
وهذا ما حدث عند القبض على فتيات التيك توك من قبل شرطة الآداب، فلم تفلح عصا القمع في كبح جماح تلك الظاهرة، بل زادت بشاعة بعد عمليات القبض التي تزايدت العام الماضي؛ لأن تلك المشكلة اجتماعية ودينية قبل أن تكون جريمة "فعل فاضح" وتحول لقضية آداب.
فهل يدرك النظام خطورة الأزمة، وأنها تهدد الدولة بأكملها، وأن الانهيار الاجتماعي يجب أن يتوقف قبل فوات الأوان، وليس بالشرطة وإنما بالأمل والعلم والعدل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.