سؤال القيم سؤال يورث القلق، ذلك لأنه يجعل القيم سائلة ومسؤولة، سائلة عن حضورها في عالم الكينونة الإنسانية، وفي عالم اللغة، وعالم البداوة والعمران، ومسؤولة عن هويتها، أخادمة للإنسان أم هادمة؟ كما أنها مسؤولة عن موقعها بين عالم الثقافة والحضارة.
وبعدما كنا نظن أن القيم لا تكون إلا ثابتة، أصبحنا نرى أنها تتلون بتلون السياق، وتتغير بتغير المساق، حتى إنها قد تكون واضحة مفهومة في مجال، وغامضة مجهولة في مجال آخر، وذلك باختلاف الأصول وتعدد المرجعيات، بين الديني والخصوصي والكوني، كل هذا أدى إلى بروز تراكمات قيمية خطيرة أفرزتها نخب لا تخفي ولاءها لسياقات مخصوصة تدفعها إلى أن تطل على محور معين من خلال محور مغاير للأول تمام المغايرة، خدمة لمنطق الإلحاقات وضماناً لاستتباع الآخر للنموذج المرغوب فيه، وهنا يأتي سؤال الإبداع للخروج من أزمة القيم وتجاوز خنادق الدفاع إلى مسالك اقتحام العقبة متوسلين بكل الطاقات المتاحة معنوية ومادية، جمالية ووظيفية، من أجل ابتكار صيغة خاصة تميزنا ونساهم بها في الوقت نفسه في بناء العالم، ولا سبيل إلى هذا الإبداع إلا بالعودة إلى ما به تجديد قيمنا على مقتضى سياقها الذي وُلدت فيه من أجل تحديثها وممارسة التحديث بها، خصوصاً مع ظهور ممارسات أدخلت الفعل البشري إلى طور جلب القوارع ودفع المنافع.
نظرات إلى أزمة القيم
لئن كانت الحداثة قد أعطتنا فرصة عظيمة لإعادة اكتشاف الذات من خلال تقريب تراثنا إلينا، وفتحت لنا آفاقاً علمية وتقنية هائلة لم تكن حتى لتخطر على سابقينا، فإن سعيها لتكديس النسق وتنطعها في البناء، قد ساهما في خلق قيم جديدة بشرت بعهد التكنولوجيا ونهاية الجغرافيا، على حساب كينونة الإنسان وحضوره بله وجوده، فظهرت هويات ثقافية جديدة، لا تحدد بالمحدد الجغرافي ولا التاريخي، وإنما بالمحدد العقلي والفكري والمادي، ومن ثم يكون في الدار الواحدة مجموعة من القيم المتصارعة التي تضع إشكالية التعايش بإلحاح، ذلك بأن مقولة نهاية الجغرافيا عملت على زعزعة كثير من المفاهيم التي أضحت تقليدية بسببها، ومن ذلك القضاء على مفهوم المكان الذي استتبعه القضاء على الحدود بمعناها الجغرافي، وهكذا تنهار سلطته لصالح سلط جديدة يحركها الرأسمال وقيم السوق من أجل تأسيس جديد لمفهوم التحرير، فيتحرر كل شيء من الجغرافيا، والاقتصاد والثقافة والحضارة وحتى العلاقات الاجتماعية، التي أصبحت لا تحضر إلا في جغرافية افتراضية مواكبة للتقنية الجديدة التي فرضتها آليات الحداثة المعاصرة إلى درجة أن أي موضوع يفقد جغرافيته ومحليته بمجرد تداوله عبر المشباك (الإنترنت) لينتقل من طور الحيز إلى طور العالَم، وهذا ما يفسر تزعزع مفهوم المسافة التي لم تعد قائمة على الموضعية (قُـرب / بُعـد) وإنما على المصلحية، ذلك بأن تقارب الدول مثلاً أصبح مؤسساً على التقارب السياسي والاقتصادي والمنفعي عامة دون أي اعتبار للجغرافيا.
إن القضاء على مفهوم المكان غيّر مفهوم الهوية التي أصبحت مرتبطة بالمتغير بالقدر نفسه الذي كانت فيه متواشجة بالثابت، وباتـت الذات تتحدد بآخَريتها بدل تعريفها بذاتيتها، وهكذا تكون قد ساهمت فلسفة نهاية الجغرافيا في توليد إنسان جديد يتبنى قيماً حديثة أفقدته إحساسه بالحضور في الكون والتفاعل معه شعــرياً ولغوياً، خصوصاً مع غياب الإبداع.
وقد ساهم التقليد في تعميق أزمة القيم حتى داخل الكينونة الواحدة، وذلك باهتراء محاور الاستقطاب التي كانت تعمل على تجديد الذات شعورياً، وتحديث حسها ثقافياً، فظهر جيل غير مقتنع بجدوى قيمه، فتمرد عليها، ممارساً بذلك الانسلاخ عن ذاته، من جهة ظن أنه حصّل اليقين في تحقيق رسوخها.
إن ظهور قيم جديدة تولدت عن منطق السوق، أحدث انقلاباً في القيم، وانتقالاً من المعنوي إلى المادي، أو بالأصح، انتقالاً إلى تشييء الحياة وتسليعها، فانتـفت أشواق الإنسان وتطلعاته، ليدخل في طور الشقاء، لغياب أهم مقوم من مقومات وجوده، وهو عالمه الداخلي.
وضميمة لما سبق، فإن غياب التأمل العميق، أدى إلى الشعور بأزمة الهوية، أمام نهاية الجغرافيا، وغياب العبادة، فكان استدعاء السرد ضرورة لسد الفراغات وتحقيق الوجود، والتحسيس بالحضور في الكون.
علاقة السرد بالقيم
السرد أداة/ شكل محايد، يوظف في التحفيز أو التنويم، في خدمة القيم أو هدمها، وهو وسيلة لتمرير القيم عن طريق مخاطبة المخيال وإقناع الوجدان، فنظام الحلقة في تراثنا، يتوسل بالسرد لترسيخ قيمة احترام النبي صلى الله عليه وسلم، من خلال الدعوة إلى الصلاة عليه قبل الشروع في الحكي والاستمرار فيه، وحكايات الجدات تسير المسار نفسه في مخاطبة وعي الأحفاد ولا وعيهم.
والسرد في القرآن الكريم بشر بالقيمة (قيمة العبادة، قيمة الصبر، قيمة التسليم لله…)، فالقصص القرآني وجه الإنسان للخروج من مضايق المادة إلى أفق روحي أرحب، ذلك بأنه لا يراه كائناً أرضياً فحسب، وإنما يراه كائناً سماوياً أيضاً، فكما أن له رغباته الترابية، فكذلك له أشواقه الروحية.
وهكذا يسعى القرآن إلى أن ينظر إلى الإنسان نظرة شمولية تعمق فيه القيم، من خلال سرد قصص يبعث على الأمل، ويقضي على اليأس والإحباط، كما هو الشأن في سورة الكهف مثلاً، ومن خلال حكي قد ينتصر فيه الشر، لكنه انتصار لا يستمر، لتعلقه بالقيمة المضادة التي ليست من فطرة الكون وسننه.
وعليه فالسرد في القرآن الكريم لم يسع إلى قلب القيم، وإنما رأى في الخطأ خطأ، وفي الشر شراً. والبطولة كل البطولة أن تعترف النفس بهفواتها، فتسعى إلى تصحيحها وتقويمها، بخلاف كثير من الأدب الذي يمجّد لحظة الانحراف والهبوط، فيلغي إنسانيته من حيث يظن أنه يوجدها، فاقداً بذلك كل الأدوات التي تمكنه من التمييز بين وسائل الارتفاع، وطرائق الاتضاع.
والسرد في "ألف ليلة وليلة" بشّر بقيمة الحياة، حيث إن شهرزاد قد استدرجت شهريار عبر السرد والحكي إلى التخلي عن الرغبة في القتل لمدة ألف ليلة وليلة، كما أن كل شخصيات الحكاية قد أنجاهم الحكي من القتل والمآزق، كالتاجر والصعلوك، والنصراني والعبد.
والسرد يمدد الحياة ويوسّعها، زماناً ومجالاً، خبرة وتجربة، لأنك تعيش مع كل سرد، داخل شخوصه وعوالمهم، عيشاً يغني حياتك حتى تصير حيوات، لا تسعفك إياها طاقة العمر، ولا ـ بالأولى ـ آلية العيش، ولكنك في الحكي تملك إمكانية الوجود والحضور، في مختلف العوالم مكاناً وزماناً.
والسرد رسخ قيمة الحرية، حيث إن أفضل الإبداعات الروائية هي تلك التي جاءت لتعبر عن أقصى درجات الصراع بغية تحرير الإنسان من سلطة النسق والبناء، من أجل نقله من مضايق العقل المجرد، إلى رحابة الحس والسعي، وعليه، فالسرد ذو بلاغة فاتحة، تفتح للإنسان عالمه الحقيقي كي يوجد فيه ويتواجد، لغة وشعراً.
وأمثلة هذا السرد المتصارع عديدة، منها رواية ألدوكس هوكسلي: "BRAVE NEW WORLD"، ورواية موسى صبري: "السيد من حقلالسبانخ" وغيرهما، حيث يتم الحديث عن الإنسان المسخ المبرمج، الإنسان الآلة، الذي قد يصل فعله إلى درجة القتل، واقتراف أبشع أنواع الشر وفق برمجة مسبقة، لكنه لا يعي ما يفعل، في حين أن أعتى المجرمين قد يحس بأنه فعل شراً، ويشعر بتأنيب الضمير، وقد يندم (هذا شعور إنساني لا تستطيعه الآلة)، وبعد الندم قد يقرر أن يتوب (فعل ديني لا تأتيه الآلة)، وقد يقرر مواصلة فعل الشر، لكنه في الحالتين معاً، يملك أن يختار، إما الخير وإما الشر، وهنا تبرز قيمة الحرية باعتبارها اختياراً، وباعتبارها بُعداً مشكّلاً لحقيقة الإنسان الذي هو كائن مخلوق، لا كائن مصنوع.
والظاهر من خلال هذا، أن السرد يمارس وظيفة تذكيرية، إذ إنه يذكر الإنسان بحقيقته القيمية أي إنه كائن ذو قيم، له القدرة على إدراك المعاني السامية التي تضفي على ممارساته طابع الجمال، فتنقلها من رتبة مجرد تحقيق الفعل إلى رتبة تجميل الفعل، وفي هذا تقوية لمفهوم الاختيار السالف الذي يكشف عن وجود طاقة خاصة لدى الإنسان تجعله يصطفي معنى على آخر، أو يترك معنى على حساب معنى آخر لدواع ثقافية أو جمالية تثبت مفهوم إدراكه للقيم باعتبارها سمة تمييزية يرتفع بها عن غيره من الموجودات.
والسرد يرسخ قيمة الحرية، لأنه إبداع يركز على الفردي والشخصي والأصيل، فكثرة الشخصيات توحي بفرادة كل إنسان، واعتبار بصمته الخاصة في هذه الحياة، وهذه واحدة من النقاط التي يلتقي فيها السرد بالدين، فالسرد يتحدث عن الشخصية باعتبار عالمها الداخلي خاصة، والدين يتحدث عن النفس باعتبار تزكيتها أو تدسيتها.
وحضور الشخصية في السرد، هو احتجاج على النسق الذي مارسه العقل الحداثي على الإنسان، فأخرجه من كينونته وحضوره في المكان، فاصلاً إياه عن عالم الحس، وناقلاً إياه إلى عالم التجريد، حيث العقل المجرد والآلية، وحيث نهاية التاريخ والجغرافيا، وهنا تحضر الشخصية في مقابل الآلية، فالشخصية هي الحرية، لأن الآلية تكرار وترداد وشَرْطية، بينما الشخصية فرادة وبصمة، وتميز الذوات عن بعضها.
إن اعتماد السرد أوصاف المشاعر، هو رفض مطلق لهيمنة عالم الصناعة والحضارة على حياة الإنسان، حتى يمسي هذا هامشاً، ويصبح ذاك مركزاً، ومن ثم يختفي الإنسان المخلوق، ليطفو إلى السطح كائن مغاير مصنوع، وهنا قمة الآفة.
إن حضور عنصر الدراما في السرد هو محاولة جادة لإعادة الاعتبار للإنسان، ولجميع حواسه في عالم الكينونة، ذلك بأن تجلية عنصر الصراع بين الخير والشر عامة (قصص الأنبياء مثلاً)، هو إيقاظ لحقيقة الفطرة البشرية، والقرآن الكريم حين يعرض هذه الدراما، إنما يكون من أجل تمجيد لحظة الإفاقة، ووضع غيبوبة المعصية موضعها اللائق بها، وهي أنها لحظة ضعف، أما لحظة الإفاقة فهي لحظة إيمان، ووخز ضمير، سمّـها ما شئت، المهم أنها ليست لحظة تجريدية، وإنما هي لحظة حسية شعورية، تُجلّـي حقيقة الإنسان في أنه كائن عابد، ومن ثم فالسرد يفتح الإنسان على العبادة، لأنه يفتح أبواب التأمل، والتأمل ضرب من العبادة.
وهكذا يقوم السرد بترسيخ الذات الإنسانية وتثبيت هويتها في عالم الحس، بعيداً عن مقولات نهاية الجغرافيا التي تدعو إلى تغيير العالم، في مقابل العبادة التي تدعو إلى تعميره، وإذا صح لنا هذا، كان السرد حياة وعمراناً، لأنه عملية بناء يمارسها بواسطة اللغة، ذات الصبغة الشعرية الجميلة.
والسرد لا يمارس الهدم إلا إذا تخلى عن وظائفه القيمية في بعدها الإيجابي، فإذا تحول عنها، صار معول هدمٍ، ليلتحق بتكديس النسق والعقل المجرد ذي البعد الواحد، في مقابل الأبعاد المتعددة، وساعتئذ، سيكون سرداً مشوهاً، شخصياته مشوهة مثله، لأنه سرد فاقد للروح وللإنسانية التي تميز الإنسان.
وسنكون حينها أمام [اللاسرد] البعيد عن الحكمة المانعة للتنطع في طلب البناء كما تجلى في عالم الصناعة الذي لا يَعتبر الإنسان إنساناً، إلا بقدر توغله في عالم المدينة والحضارة، متنكراً لعالم الحس والثقافة .
وخلاصة الكلام، إن السرد ترسيخ لهوية الإنسان في عالم الجغرافيا، بواسطة الفن، أي إنه يخاطب في الإنسان حسه الفني وبعده الجمالي، حتى ينفذ إلى أعماقه، واحتجاج على تحويل الإنسان من المخلوقية إلى المصنوعية، ومن ثم فهو يجلي لنا وجود أزمة قيم.
والسرد صاحب بلاغة فاتحة لآفاق جديدة، تبعد الإنسان عن مستنقعات الحياة اليومية، وتمكنه من أدوات المواجهة لضغوطات الحداثة، حتى يتم التفريج عن هذا الإنسان، وهو تبشير بالعبادة، لأنه يربط عالم الحركة بالقيمة، كمثل ربط الاقتصاد بها .ولهذا نجد أن الثقافة المعمارية الإسـلامية جعلت المسجد الجامع مركز السوق ومركز كل تجمع لتنطلق منه كل أنشطة الإنسان وتعود إليه، مستمدة منه القيم النافعة التي تؤطر حياته الأولى والآخرة، فيبني ويعمر، ويعمق في القيم حتى يفهم العالم ويعيد إلى الإنسان حقيقته واعتباره.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.