أصبحت المعرفة المستدامة في القرن الحادي والعشرين من أهم الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها المجتمعات. فالأنماط الثقافية المستوحاة من النظام المعرفي تخلق منظومة قيم فعالة، مما يؤدي إلى خلق وتطوير سلوك اجتماعي جديد أو تعزيز سلوك اجتماعي محبذ.
القيم الأساسية المشتركة بين أفراد المجتمع ينبغي لها أن تكون مشتركة ومتجانسة بقدر غير قليل. فالثقافة هي ناتج تفاعل العقل والتراث في المجالات المادية، والفكرية، والسلوكية.
وإذا تحدثنا عن العقل، حضرت المعرفة والتعليم. وفي ظل جائحة كورونا اتجه التعليم نحو مسار جديد، فالمنازل تحولت إلى صفوف تعليمية، والمعلومات التي يستقيها الطلاب صبغت بطابع التلقين الإلكتروني، والتكنولوجي المباشر. نحن أمام مفهوم جديد للتعليم، وظاهرة اجتماعية وسياسية جديدة بالكلية في عالمنا، لكن مدى تقبل تك الظاهرة قد اختلف من مجتمع لآخر.
فمعظم الدول التي تصنَّف في مصاف الدول المتقدمة أو الصناعية، لم تجد أن لهذا النوع من التعليم الجديد فاعلية رغم جودته، تركيا على سبيل المثال، ورغم التطور التكنولوجي الذي تشهده لجأت كما الكثير من دول العالم، إلى التعليم عن بُعد للطلاب في ظل أزمة كورونا، ولكن اعتبرت تلك الطريقة "غير فعالة" بشكل كبير، إذ تحول الصف المدرسي إلى صف افتراضي دون ضوابط تنظم العملية التعليمية وتحقق غاياتها. لذا بدأت في إجراءات تدريجية لإعادة الطلبة إلى المدارس. وفي دول عربية، تعرض الأساتذة للسخرية والتنمر والاستهزاء من "الأشباح الإلكترونية"، ناهيك عن مشاكل البنية التحتية والمتعلقة بجودة الإنترنت ومشاكل الموارد البشرية والثقافة التكنولوجية للطلاب والمدرسين على حد سواء.
إن التحول التكنولوجي الذي يعتمد على التقنيات الرقمية في ابتكار المنتجات والخدمات، وتوفير قنوات جديدة من العائدات التي تزيد من قيمة منتجاتها، والذي يشير إلى التقدم الهائل على الصعيد التكنولوجي، لكن لكل عملة وجهان، الجيد والسيئ، الصواب والخطأ.
وبالنسبة للمعلمين، تعتبر التكنولوجيا شيئاً آخر يدعو للقلق مع الدروس الكثيرة، في حين أن التأخير وعدم معرفة مصير العام الدراسي هما أمران مقلقان بالنسبة للطلاب، وهو ما جعل الدولة تعمل على المدى الطويل في تكييف مع التعليم الإلكتروني.
يقول الأستاذ الدكتور أمجد هديب، عميد كلية الملك عبدالله الثاني لتكنولوجيا المعلومات في الجامعة الأردنية: "أصبح لزاماً على جميع هيئة التدريس اعتماد التعلم عن بُعد في ظل هذا الحظر، الأمر الذي شكل ضغطاً علينا مع وجود 52 ألف طالب وطالبة في الجامعة وأكثر من ألفي عضو هيئة تدريس. لكننا تمكنّا حتى الآن من تغطية 70% من المساقات المطلوبة".
فتكنولوجيا التعليم التفاعلي المباشر الذي نطمح لاستخدامها وتطبيقها بشكل فعال في برامج التعليم، تحتاج لمجهود ورؤية واستراتيجيات مدروسة بعناية. لذا لا بد من تطوير مهارات المدرسين والإداريين والفنيين، وتطوير المناهج والمقررات الدراسية، واستخدام أنظمة وبرامج تفاعلية، واستخدام الإنترنت في المدارس والجامعات بشكل أساسي ودائم باعتباره إحدى الوسائل الضرورية المطلوبة في تنفيذ وتطبيق تقنيات التعليم الجديدة.
الاستثمار في التعليم والتطوير وتجويد التعليم وطرقه لا يمكن إلا أن يكون رأس المال المعرفي، الثقافي الأثمن في تنمية الإنسان، تنمية شاملة متكاملة.
فالمدرسة، التي تعتبر المؤسسة الاجتماعية الثانية، في عملية التنشئة الاجتماعية، في عملية نقل القيم والأعراف والضوابط الاجتماعية، يمكن اعتبارها المؤسسة الأولى التي تدخل الطفل إلى المجتمع ولو بشكل غير مباشر، حيث يختبر الطفل علاقته زملائه ورفاقه والمدرسين والعاملين من مختلف الأعمار والمشارب والخلفيات الثقافية والاجتماعية.
وأود أن أشير إلى نوعين أساسيين للعملية التعليمية؛ الأولى تعتمد على التلقين، والذي يعتبر وجهاً آخر للسلطة الأبوية، ويكون دون مشاركة الطلاب وبعيداً عن الحوار والنقاش. والثانية التي تسمى "الطرق النشطة في التعليم" وهي تعتمد على الحوار والمشاركة، والانشطة اللاصفية، مما يؤدي إلى الإبداع، والابتكار، وتكون هنا المدرسة وسيلة لتجدد القيم التي يكتسبها الطالب.
لكن، وفي خضم جائحة كورونا، تداخلت طرق التعليم لتصبح ذات طابع تلقيني، يعيش فيها الطالب في عالم افتراضي قائم على التشتت الذهني.
ورغم أن هذا التطور في المجال التعليمي أثبت إمكانية تطبيقه في عصرنا، لكن في لبنان لا يمكن أن نضع آمالاً على نجاحه، بسبب ضعف التدريب وانخفاض مستوى التأقلم التكنولوجي المعرفي ومع غياب إنترنت ذي جودة عالية وقلة التربية التكنولوجية لدى الطلاب وخاصة طلاب المرحلة التمهيدية والابتدائية والمتوسطة. فإننا نرى أن نجاح المدرسة الإلكترونية الذكية ممكن، ولكن شريطة توفير المتطلبات الأساسية لها (التدرب على استخدام التكنولوجيا في المجال المعرفي، توفير الإنترنت بجودة عالية، توفير أدوات تكنولوجية متقدمة مساعدة للمعلمين).
تلك الطريقة المحدّثة في مجال التعليم لا يمكن اعتمادها إلا في المرحلة الثانوية، والجامعية، هذا باعتماد التدريب والتأهيل المادي والمعنوي أيضاً، فإن التطور في وسائل الاتصال والتواصل أدى الى إعطاء وخلق قرية معرفية افتراضية، وعالم افتراضي جديد، بدأ يغزو العالم بوجود صراع ثقافي قيمي، وخاصة في عالم الطفولة في مجالاته، ومنها مجال التعليم، ليجعل الإنسان حقاً عبداً للآلة التي أجبرت الإنسان بشكل أو بآخر على التعايش معها، لتصبح الحرب هنا بين العقل والتكنولوجيا. حرب بين الشاشة والقلم، الكتاب والإنترنت، بين التلقين والطرق الناشطة، بين المحدود واللامحدود، بين الواقع والمواقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.