قبل 15 عاماً من الآن، تحديداً في مثل هذا الشهر في فبراير/شباط عام 2006، وبينما كان مسلحون مجهولون يعدون العدة لتفجير مرقد الإمام علي الهادي وابنه الحسن العسكري- رحمهما الله- في مدينة سامراء، فُتح باب المحجر الذي أقبع فيه مع أكثر من 200 معتقلٍ- لا يسع ربع عددهم- محشورين فيه كالسمك في علب السردين، دخلَ مُنتسبٌ بلباس مدني منادياً باسمي، هرولت إليه ظناً أنهم سيفرجون عني، خاصة بعد مضي 21 يوماً على اعتقالي من البيت بمداهمة ليلية لقوات مغاوير الداخلية سيئة الصيت (لواء الذيب)، بواسطة مُخبرٍ سري لم يعرف اسمي إلا بعد أن أخبرتهم به، ولم أعلم سبب الاعتقال إلى يومنا هذا.
خرجت مع ذلك المنتسب الغاضب في تلك الليلة الباردة الماطرة مشدود العينين وموثق اليدين إلى الخلف، ساقني ضرباً عبر ممرٍ طيني إلى مهجع الضباط المجاور لمحجرنا، أصعدني إلى الدور العلوي وأدخلني في غرفة على يميني وسلمني إلى ضباط التحقيق الذين بطحوني أرضاً، معلنين إطلاق حفل تعذيبٍ ليلي افتتحوه بضربي على ظهري وباطن قدمي بواسطة قضيبٍ حديديٍ عريض، صرختُ متألماً: " ماذا فعلتُ سيدي؟!"، أجابني أحدهم من غير أن ينقطع عن الضرب: "أنت إرهابي، اعترف من قتلت؟".
تناوب ضباط التحقيق على ضربي وسبّي وشتمي لنصف ساعةٍ أو يزيد، وأنا مرميٌّ بينهم على الأرض مشدود العينين واليدين، سحبوني بعدها إلى منتصف الغرفة وشدوا مرفقيّ خلف ظهري بحبلٍ متين، سمعتُ صوت سلاسل معدنية ترتطم ببعضها فظننت أنهم سيضربونني بها، ولكنهم ربطوها بالحبل وبدؤوا برفعي إلى السقف عبر ماكينةٍ عرفتُ لاحقاً أنها تستخدمُ لرفع محركات السيارات، ولكن أصحاب النفوس السادية طوروا استخدامها وأضافوها إلى عدة تعذيبهم.
لا يمكنني وصف الألم الذي ذقته مع تقطُّع الأوتار التي تربط عظم العضد بالكتف، لكم أن تتخيلوا رجلاً يزن أكثر من 100 كغم يعلَّق من ذراعيه بالمقلوب ماذا سيحل به؟ لم يكتفوا بتعليقي فقط، بل تعلق أحدهم بجسدي متأرجحاً ليشده نحو الأسفل ويخلع العظم عن لوح الكتف، لم أعد أشعر بعدها بذراعي وبقيت متدلياً على هذا الحال الذي لا أتمناه لعدوٍ.
تناوب المُعذِّبون بلعب الأدوار معي، ففي الوقت الذي كان أحدهم يمارس هوايته بالتعلق بجسدي والدوران به، ولا أملك معه إلا الصراخ ألماً، يهمس محقق آخر في أذني بلسان المنقذ: "النبي يقول إن النجاة في الصدق، اعترف من قتلتَ وأنا أنزلك فوراً"، كنت أجيبه بصوتي المبحوح : "سيدي، من أقتل؟ اسأل الناس عني، أبناء منطقتي، جيراني، أصدقائي، هم يعرفونني جيداً، لم أتشاجر وأضرب أحداً ولم أقتل فأراً في حياتي، فمن أقتل؟!".
أجابني المحقق مستهزاً: "صحيحٌ ما قلتَ، سألنا عنك بالفعل ويمتدحونك لحسن خلقك، ولكن مع هذا اعترف مع من تتعاون كي أطلق سراحك الآن وأعيدك لأهلك"، يسألني محقق ثانٍ عن أشخاصٍ لم أسمع بهم في حياتي، محاولاً إلصاق تهمة قتلهم بي، وعن آخرين لم أقابلهم أو أسمع بأسمائهم يرغمني على الاعتراف بالانتماء لهم، وأنا أغلظُ له الأيمان تلو الأخرى أني لا أعرف لا هذا ولا ذاك، والله على ما أقول شهيد.
استمر حفل التعذيب- الأول في حياتي وأرجو أن يكون الأخير- ثلاث ساعات ونصف، أنزلوني من الماكينة بعد أن يئسوا من إجباري على الاعتراف بأمورٍ لم أعملها، أوقفوني جانباً ليسقوني كأساً من الماء وليتأكدوا من عدم ظهور آثار التعذيب على جسدي، ثم أعادوني للمحجر قبيل منتصف الليل، استقبلني زملائي ليواسوني ويحاولوا التخفيف عني، رميت جسدي بينهم ونمتُ وسط الألم، متجاوزاً على مساحتي الضيقة المخصصة للنوم.
صباح اليوم التالي وقبل توزيع وجبة الإفطار، فُتح باب المحجر مجدداً، دخل منتسبٌ بلباسٍ عسكري منادياً باسمي، رفعني زملائي من الأرض وأوصلوني إليه، جرّني موثوق العينين واليدين إلى المهجع نفسه، هذه المرة في الدور الأرضي على اليمين أيضاً ربما تحت غرفة حفل الأمس، أجلسني على أرض مكتب المحقق الذي لم يكن موجوداً فيه، أحسستُ بحالة فوضى وهلع تعم المكان، كان يعج بالضباط والمنتسبين عكس الليلة الماضية، شيئاً فشيئاً بدأت أميّز صوت المذيع عبر التلفاز في الغرفة المجاورة وهو يُعلن عن تفجير مرقدَي سامراء، ارتجف قلبي خوفاً من عواقب هذه الجريمة ولم ترتعش أطرافي، لأنها كانت منهكة ومفككة.
دخل المحقق ليثبت أقوالي في محضر تحقيقه، كان يوجه لي سؤالاً ثم يخرج إلى زملائه في الغرفة المقابلة، كنت أختلس النظر، من خلال القماش الرقيق الذي يغطي عيني وأراهم يتحدثون بغضبٍ وانفعال، كان الضابط يتنقل بين مشاهدة قبة الإمام "علي الهادي" المفجرة على التلفاز وغرفته التي يجلس على أرضها المتهم "علي هادي". استمر التحقيق أكثر من ساعة على نفس حال الضابط بالسعي بين الغرفتين، ثم أخذني ضابط آخر لغرفة أخرى وسقاني وأمرني بالتوقيع على المحضر الذي لم أعرف ماذا كُتب فيه، ولا أذكر كيف مسكت أصابعي القلمَ حينها وماذا خطت على الورقة.
أعادوني إلى المحجر ونقلتُ لزملائي خبر التفجير الإجرامي ليستعدوا للأسوأ، وفعلاً زاد السجانون من حفلات تعذيبهم الليلية للمعتقلين، بعضهم يعيدونه لنا مصعوقاً بالكهرباء مرعوباً مرتجف الأوصال، وبعضهم يؤتى به مغمى عليه من التعذيب محمولاً على الحمالة، وآخرون مخلوعو الأكتاف ومعذبون بطرق لا تظهر آثارها، ولا نعلم ممن يخشون، خاصةً أن الجنود الأمريكان كانوا يرافقونهم أثناء الاعتقال ويتفقدون محاجرنا بين فينة وأخرى، ويتركوننا ليلاً بمعية المحققين ليختلوا بنا، وما زلت أذكر منظر ذلك الفلاح الستيني مقطوع الساق حين زارتنا إحدى لجان التفتيش الروتينية، رفع حينها ساقه الصناعية عالياً بين الجموع عسى أن يراه أحدهم ويفكر كيف يمكن لهذا العجوز أن يكون إرهابياً!
لن أنسى فضل زملائي الذين كانوا يطعمونني ويسقونني ويرافقوني للحمام بعدما فقدت قدرتي على تحريك ذراعيّ لأسابيع عدة، لم أكن أقوى حتى على حك جلدي، وبعد مضي 56 يوماً من الاعتقال تم إطلاق سراحي بمعجزة، لله تعالى وحده المن والفضلُ فيها، والطريف أن ضابط التعذيب نفسه احتضنني مودعاً وسألني إن كنت أحتاج شيئاً منه، لا أعلم هل شعر بالذنب؛ لكونه عذب بريئاً، أم أراد صرف الانتباه عنه ظاناً أني لم أميزه؟
تتفاوت الجراح والأضرار الجسدية للمعتقل الأسير على قدر التعذيب الذي تلقاه، أغلبهم- مثلي- زالت آلامهم بعد أسابيع أو أشهرٍ معدودة، رغم أن بعض آثار الحبل الذي علقوني به ما زالت مطبوعةً على مرفقي، وبعضهم خرج من معتقله حاملاً معه عاهةً أو عوقاً جسدياً ظاهراً أو باطناً، ولكننا جميعاً- وبلا استثناء- خرجنا مُثخني الجراح النفسية والسلوكية، وللأسف لم نتجه إلى أطباء ومختصين نفسيين لنتعالج من آثارها بل تركناها والزمن، فتظاهر أغلبنا بأنه قد تعافى منها ولكن تفضحه المواقف والأزمات فيقع صريع تراكمات الليالي المظلمة التي عاشها، وأشدُهم منا ضرراً فقدوا الثقة بأنفسهم، لا تُفارق ذاكرتهم لحظات الألم والعذاب، ولا ينفك عنه الاكتئاب والحزن والانكسار والشعور بالذنب، والمؤلم لبعضهم بعد نجاته من ظلم سجانيه، أن يتعرض لظلم مقربيه، ضمن دوائر الأهل والأصدقاء والمعارف، منهم من يبتعد عنه خوفاً على نفسه من التعرض للمصير نفسه، وآخرون يشاركون الجلادين شكوكهم ولكن لا يملكون سوطاً فيغلقون باب التواصل في وجه المعتقل.
فترة اعتقالي وما ذقته من العذاب في تلك الليلة الصارخة، لا تساوي شيئاً مقارنة بما عانى غيري ممن سبقني بالاعتقال أو ممن لحقني، أغلب الموقوفين تم اعتقاله بواسطة مخبرٍ سري وتهم كيدية وعداوات شخصية، المحظوظ منهم اعتقل أشهراً أو سنوات ذاق فيها سوء العذاب ثم أطلق سراحه لاحقاً بعد بيان كذب المخبرين، وسيئو الحظ سواهم ألصقت بهم تهم جاهزة وأجبروا على الاعتراف بتنفيذها بعد تطوير المحققين أساليب تعذيبٍ يشيب لها شعر الولدان.
لستُ أشجعَ من غيري في سرد أحداث ما جرى ويجري وما خفي كان أعظم، ميزتي عنهم أني خارج البلد، ولو كنتُ داخلهُ لما تجرأت ربما على وضع نقطة على حرف، وميزتي الأخيرة أيضاً أنني رجل، ولو كنتُ امراةً معتقلة- مثل اللواتي رأيتهنَ أثناء إطلاق سراحي- لما تجرأتُ على سردِ ما تعرضتُ له حتى لو غادرتُ إلى المريخ، والله تعالى وحده يعلمُ ما يتجرعن من المرارة والألم.
الظلم والتعذيب وإهانة كرامة الإنسان واحتقاره، أسوأ أنواع الفساد الذي ساد العراق في زمن البعث بحجة محاربة أعداء الوطن، وما زال متفشياً بقوةٍ وبصورٍ أكثر إجراماً، على يد أناس يُفترض أنهم ذاقوا مرارة الظلمِ من قبل، وتفاقمت للأسف منهجية الانتقام والثأر والخلط بين المجرم الحقيقي والبريء لمجرد الانتماء الحزبي أو الطائفي أو العرقي بحجة محاربة الإرهاب، ولا توجد إلى الآن منظومة تُحاكم الفاسدين في أجهزة الأمن الحالية والقضاء، ولا توجد إرادة لإنصاف المظلومين بسببهم، بل العكس يرتقي الفاسد الظالم ويُكرّم، وإذا ما استمرت حلقة الظلم المفرغة من العدل بالتعاقب في العراق من حُكمٍ لآخر، فلا أمل يُرجى لحريةَ شعبٍ أو بناء وطن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.