لا شك أن الامتداد الزمني الطويل الذي صدرت فيه مؤلفات طارق البشري والذي زاد على نصف قرن سيمثل مشكلة في كيفية تناوله من قبل الأجيال الجديدة التي لم تعايش فترة صدور أغلب هذه الأعمال. وهدفي هنا أن أساعدها قدر استطاعتي في قراءة تراث الرجل رغم شموله واتساع نطاقه.
وطارق البشري، كأي مفكر كبير، شخصية متعددة الجوانب والأبعاد، ولذا يمكن قراءته بعدة طرق. سأتحدث هنا عن الطريقتين المفضلتين لدي ويمكن استخدامهما بنفس الترتيب الموجود هنا، مرة لقراءته بشكل تاريخي تتابعي، والأخرى لإعادة قراءته بشكل موضوعي. بالطبع توجد طرق أخرى، ولعل الظروف تسمح بعرضها فيما بعد، ولكنني أحبذ هاتين الطريقتين وجربتهما بشكل متكرر في قراءة أعمال الأعلام الذين تأثرت بهم.
أما قراءة البشري بشكل تاريخي تتابعي فتعني ترتيب كتبه ودراساته حسب تاريخ صدورها حتى تقرأها على خلفية سياقها التاريخي الذي كُتبت فيه ونشرت. وإلى جانب محتوى الكتب ستعرف بالتالي سياق انتقاله من موضوع لآخر أو من جانب لآخر وكيفيته. أي أنك ستلم إضافة إلى ذلك بالتطور الفكري للبشري نفسه، وبعطائه الثقافي منذ أول دراساته المنشورة عام 1965 وحتى آخر كتبه التي صدرت حسب علمي سنة 2015. ولهذا لا بد أن تعرف أنني أقسم كتبه ودراساته من حيث صدورها على ثلاث مراحل:
الأولى منها، وهي مرحلته العلمانية، وكانت بالمناسبة علمانية فكرية تتصل فقط بالشؤون العامة لا الخاصة، بدأت بنشر دراسته "عام 1946 في التاريخ المصري"
(1965) أي كان في الثانية والثلاثين من عمره وله خبرة وظيفية طويلة، ثم دراسته "سعد زغلول وفكره السياسي"(1969) التي كتبها بمناسبة مرور 50 سنة على ثورة 1919، وهي موجودة الآن في كتابه "شخصيات تاريخية"، ثم دراسته عن المؤرخ المصري الكبير "عبدالرحمن الرافعي" (1971) بمناسبة مرور خمس سنوات على وفاته، وهي موجودة أيضاً في كتابه "شخصيات تاريخية". ثم كان صدور كتابه الأول عن "الحركة السياسية في مصر 1945 – 1952م" (1972). ثم كتابه "الديمقراطية والناصرية" (1975). وكتابه "سعد زغلول يفاوض الاستعمار: دراسة في المفاوضات المصرية – البريطانية 20 – 1924م" (1977).
أما مرحلته الثانية فكانت في إطار تيار الإسلام الحضاري أو العقلاني الذي أصبح علماً عليه، وهي مرحلة لم تبدأ فجأة ولكن سبقها تمهيد طويل بدأ تحديداً مع هزيمة 1967. وأنا للحقيقة أقسِّم هذه المرحلة قسمين أو مرحلتين؛ الأولى منهما تخص نشاطه الفكري في إطار هذا التيار إبان فترة ولايته القضائية أو ما كان قد بقي منها. وقد بدأت هذه المرحلة بدراسته المهمة حول "رحلة التجديد في التشريع الإسلامي"
(1979)، ثم أصدر فيها كتابه "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية"
(1981). ودراسته عن "أحمد حسين من وجهة نظر التاريخ" (1982) والموجودة في كتابه "شخصيات تاريخية". ثم أصدر "الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952 – 1970م" (1987)، و"دراسات في الديمقراطية المصرية" (1987)، و"بين الإسلام والعروبة" (1988). وهنا لا بد أن أشير إلى دراساته ضمن كتاب: "في منهج الثقافة الإسلامية بجامعة الخليج العربي" (1988)، وهذا الكتاب لم يكن يباع ولكن تُهدى نسخه. ثم أصدر "منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي" (1990)، و"مشكلتان وقراءة فيهما" (1992)، ثم دراسته عن "مصطفى النحاس"
(1994) التي كتبها بمناسبة مرور 75 سنة على ثورة 1919، وهي موجودة كذلك في كتابه "شخصيات تاريخية" (1996). وفي هذه المرحلة أيضاً نشر البشري سلسلة كتبه "في المسألة الإسلامية المعاصرة"، والتي تضم: "ماهية المعاصرة"، و"الحوار الإسلامي العلماني"، و"الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر"، و"الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي"، (وقد صدرت جميعها في سنة 1996).
وفي نهاية شهر يونيو/حزيران من سنة 1998 انتهت الولاية القضائية لطارق البشري وكان قد تجاوز الرابعة والستين من عمره، ومن ثَم بدأ فترة جديدة من نشاطه الفكري، وهي تمثل المرحلة الثالثة هنا، كانت أكثر تحرراً من قيود منصبه القضائي ومسؤولياته التي كانت تمنعه من التناول المباشر للقضايا الاجتماعية والسياسية. وفي هذه المرحلة أصدر: "العرب في مواجهة العدوان" (2002) عن فترة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول وقبل احتلال العراق، و"المشروع الحضاري العربي بين التراث والحداثة" (2002)، و"القضاء المصري بين الاستقلالية والاحتواء" (2005)، و"منهج النظر في تشكل الجماعة السياسية وحركتها التاريخية"، وقد نشرا ضمن أعمال مؤتمر "المواطنة المصرية ومستقبل الديمقراطية" الذي عقد آنذاك. ثم كانت محاضرته في مكتبة الإسكندرية عن "القضاء المصري وعلاقته بالحكومات المختلفة" (2005). وفي المرحلة نفسها أصدر "مصر بين العصيان والتفكك"
(2006)، و"نحو تيار أساسي للأمة" (2008)، و"الإسلام والتطرف الديني"
(2009)، و"السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية" (2011)، و"الدولة والكنيسة" (2011). أما كتبه بعد ثورة يناير/كانون الثاني فهي الأقل شهرة- حتى الآن- بين كتبه ومنها: "ثورة 25 يناير/كانون الثاني والصراع على السلطة"
(2014)، و"من وعي الوجود والانتماء إلى محنة التجدد والاستقلال" (2014)، ومادة هذا الكتاب نشرت في دورية "أمتي في العالم" في الفترة من سنة 2000 وحتى سنة 2011 وأهمها في رأيي دراسته المهمة عن "الثورة المصرية والنخبة السياسية". أما آخر ما رأيته من كتب البشري فكتاب "التجدد الحضاري: دراسات في تداخل المفاهيم المعاصرة مع المرجعيات الموروثة" (2015)، و"قراءات فكرية وهموم مصرية" وهو كتاب يضم مقدمات البشري لثلاثين كتاباً مختلفاً كتبها في فترات متباينة خلال فترة نشاطه الثقافي.
وكما ترى فالبشري رحمه الله قد ترك لنا تراثاً ضخماً تقتضى قراءته وتفحصه ودراسته والتوفر عليه زمناً. وبعد هذه القراءة الزمنية أو الكرونولوجية تأتي الطريقة الثانية وهي القراءة الموضوعية أي تبعاً للموضوعات أو المجالات الكبرى التي اهتم بها البشري إبان حياته العلمية والعملية، وهذه تحتاج لمقال مستقل سيكون التالي إن شاء الله.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.