فيلسوف وعالم رياضيات ألماني من مواليد 1859 وتوفي سنة 1938، مؤسس الظاهراتية والأب الشرعي للفلسفة الفينومينولوجية، التي تعتبر منعرجاً كبيراً في الفكر الفلسفي العالمي، هناك من أساتذة الفلسفة من يعتبر أن هوسرل هو آخر فيلسوف مذهبي عرفته البشرية إلى الآن، وكل الذين جاؤوا من بعده تفلسفوا في بعض الأمور الجزئية فقط، ولم يعطوا لنا مذهباً فلسفياً متكاملاً يناقش كل مواضيع الفلسفة، من الوجود إلى نظرية المعرفة إلى مباحث القيم (الحق والخير والجمال).
قبل البداية في تبسيط أفكار إدموند هوسرل وشرح الفلسفة الفينومينولوجية يجب تقرير حقيقتين أوليين:
أولاً: يُجمع الدارسون ومؤرخو الفلسفة أن مواضيع الفلسفة تدور حول ثلاثة مباحث، مبحث الوجود، وهي الأفكار التي تحاول إعطاء تفسير عقلي ودقيق للوجود بما هو موجود، فحينما ترى شيئاً بعيداً مشوشاً ستتساءل: ما هذا؟ وستحاول الاقتراب منه ومحاولة فهم ماهية هذا الشيء، وستعتمد في بحثك هذا على أشياء كثيرة من التفكير والحواس والتأمل، حتى تصل إلى تحديد مفهوم لهذا الشيء، والمبحث الأول من مباحث الفلسفة يحاول فهم هذا الوجود كاملاً بتلك الطريقة، ونتج عن تلك التأملات مذاهب وفلسفات كثيرة.
المبحث الثاني في الفلسفة هو الإبستيمولوجيا، أي نظرية المعرفة، ويتساءل الإنسان فيه عن إمكاناته المعرفية، فهل يثق في حواسه التي تخدعه أحياناً فيرى السراب ماءً مثلاً، وأن يثق في عقله الذي لا يستمد المعرفة إلا من الحواس المخادعة، وهل هناك مصادر أخرى للمعرفة كالشعور والحدس أو الإيحاء، وهناك من نفى إمكانية الوصول للمعرفة أصلاً، وطبعاً هناك من قال إن بإمكاننا معرفة كل شيء في الوجود.
المبحث الثالث هو مبحث القيم من حق وخير وجمال، تتساءل أفكار الفلاسفة فيه بين مفهوم الحق، فهل هناك حقيقة مطلقة، أم أنها نسبية، أم لا توجد حقيقة أصلاً، وما هو الخير والشر، ومن أين جاءا، وكيف لنا أن نميز بين الخير والشر؟ وكذا مفهوم الجمال، وكيف لنا أن نحدد مفهوماً واضحاً عقلياً للجمال الذي نشعر ونحس به ونتلقاه ولا نعرف أساسياته التي بني عليها.
ثانياً: الفكرة الثانية التي يجب أن نعرفها قبل البدء في طرح أفكار هوسرل هي أن الفلسفة الغربية الحديثة أبدعت أشد إبداع في المبحث الثاني للفلسفة؛ مبحث الإبستيمولوجيا، وبه استطاعت الحضارة الغربية أن تصل إلى هذا الكم الهائل من المعرفة، ومن العلوم، من دقائق الذرات إلى ضخامة المجرات، فكان المنعرج الأول أسس له الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت في إعطائه ثقة كبيرة للعقل البشري في محاولة تسخير الطبيعة له، وكذا الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون في تأسيسه لمبدأ الاستقراء العلمي على أسس فلسفية وبه بدأت تتراكم المعارف والعلوم الطبيعية، خاصة لدى العقل الأوروبي، ثم جاء المنعرج الثاني على يد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في تقسيمه للوجود إلى وجود ظاهري يدركه الإنسان عن طريق الحواس، ثم يقوم العقل بتحليل المعطيات الحسية تلك وفهمها وترتيبها ليصل العقل الإنساني إلى المعرفة، والقسم الثاني من الوجود هو العالم النوميني، الذي لا يمكن للإنسان إدراكه لأنه لا إمكانية للوصول إليه، وظهرت بعد كانط ثورة العلوم الإنسانية، بعدما حدثت فيما سبق ثورة العلوم الطبيعية، وظلت الأمور هكذا حتى جاء إدموند هوسرل ليطرح فلسفة معدلة لفلسفة كانط وأدق منها، فهوسرل لا يرى أن الوجود هو عالم ظاهري وعالم نوميني (مخفي) كما قال كانط، بل يرى هوسرل أن العالم الظاهري الذي تكلم عنه كانط هو كل العالم ولا شيء وراءه… فكيف هذا؟
الإنسان يدرك العالم الخارجي عن طريق الحواس (بصر، سمع، ذوق، شم، حس) فتدخل وتسقط تلك المعطيات على العقل البشري من ذبذبات صوتية فيفهم من العقل معنى معين، وذبذبات موجية مرئية، فيرى بها الإنسان العالم، ولو تساءلنا ما هو مثلاً اللون الأحمر عندما ترى كتاباً أحمر أمامك، فاللون الأحمر هو موجود في عقلك أنت وليس موجوداً في الخارج، لأنه في الخارج عبارة عن ترددات للضوء فقط، والعقل هو من يحول الموجات تلك إلى لون أحمر أو أزرق أو أي لون آخر.
وبالتالي فإن إيمانويل كانط قال إننا نحن البشر لا ندرك إلا جزءاً من العالم الخارجي، الذي لا يمكننا معرفة كنهه، وإنما معرفتنا مقتصرة على ما يسقط على حواسنا من إدراكات يرتبها العقل ويفهم منها وجوداً معيناً، هو عبارة عن القسم الظاهري من الوجود الكلي للعالم (سنشرح فلسفة كانط في وقتها بالتفصيل)، وهناك قبل الفيلسوف كانط فيلسوف آخر هو بركلي، الذي نفى وجود العالم أصلاً، وقال إن هذا العالم الذي ندركه هو في وعينا فقط، أما في الخارج فلا يوجد شيء، وهناك فلاسفة تجريبيون آخرون قالوا إن ما ندركه هو الوجود نفسه، وهو موجود في الخارج كما نراه وندركه بالتفصيل بلا أي تغيير… وهذا يسمونه في الفلسفة بالذات والموضوع، حتى جاء إدموند هوسرل ووحد بين الذات والموضوع، مؤكداً أن الذات (الوعي)، والموضوع (العالم)، يمتزجان فيما بينهما ليدركوا الظاهرة، فالعالم الظاهري الذي تكلم عنه إيمانويل كانط ليس منفصلاً عن الوعي وعن الذات، بل إن الذات نفسها والوعي ملتحم بالموضوع، وبالتالي فلا شيء خارج هذه الظاهرة يمكن أن نسميه بالعالم النوميني.
الفلسفة الظاهراتية:
تقوم الفلسفة الظاهراتية وفقاً لهوسرل على ثلاث ركائز، هي الأيبوخية (تعليق الحكم) والرد والقصدية.
الأبوخية، أو تعليق الحكم، أو الوضع بين قوسين كما يسميها هوسرل، هي أن يضع المتلقي للظاهرة كل الأحكام المسبقة الفلسفية والتاريخية والطبيعية بين قوسين، ولا يستعملها في تفكيك هذه الظاهرة الملقاة على صفحة الوعي (مع أن الوعي وفقاً لهوسرل ليس منفصلاً عن الظاهرة).
الرد عند هوسرل هو رد أجزاء أو كل تجليات تلك الظاهرة إلى ماهياتها، فاللون يعود لماهية اللون، والشكل يعود للتمدد، وهكذا.
القصدية هي ببساطة حركة الوعي تجاه الظاهرة التي لن تكون بدونه، فالوعي دائماً هو وعي بشيء وليس وعياً مطلقاً منفصلاً، وهذه فكرة جديدة ومفصلية في الظاهراتية، وإن كان هوسرل أخذها من علم النفس (برنتانو هو من تكلم عن القصدية في علم النفس)، أي لا يمكن للوعي أن ينفصل عن الشيء المدرك، فدائماً هناك وعي بشيء.
وبهذه العناصر الثلاثة يفسر إدموند هوسرل الفينومينولوجيا، يعني خُذ أي ظاهرة أمامك أولاً، يجب أن تدرك أن وعيك ليس منفصلاً عنها، ولا بد لك من تعليق أي أحكام قبلية أو طبيعية على الظاهرة، ثم رد أجزاء الظاهرة لكلياتها، عندها ستفهم مقصود هوسرل، وتعلم ما الجديد الذي جاء به في الإبستيمولوجيا.
مثال
هبْ أن أمامك كتاباً مستطيل الشكل، خشِن الملمس، أحمر اللون، فالذي تستقبله حواسك من هذا المشهد: اللون الأحمر، الملمس الخشن، الشكل المستطيل… بمجرد ما تراه ستقول إن هذا كتاب، فحسب إيمانويل كانط فإن عقلك قد تلقى الجانب الظاهري من هذه الظاهرة عن طريق الحواس، وبعمل ملكات عقلك وصل لك للحكم على أنه كتاب، لكن هوسرل يقول لك بأن تطبق العناصر التي ذكرناها من قبل على الظاهرة، فالأحمر هو جزء وليس من ماهية الكتاب، وهذا اللون ليس منفصلاً عن وعيك كمتلقٍّ، لأن وعيك هو جزء في صناعة اللون الأحمر، لأن الأحمر ليس موجوداً في الخارج، ونفس الشيء بالنسبة للشكل والملمس، أي أن الظاهرة قد امتزجت مع الوعي، وأعطت لك معطى معيناً هو عين ماهية الكتاب ولا شيء آخر، ووعي الناس الآخرين يمتزج مع ذلك الموضوع (الكتاب)، ليعطي ظاهرة وعيهم جزءاً منها، وساهم في صناعتها، فأنت مثلا لا تستطيع شرح اللون الأحمر لشخص لم ير الألوان في عمره، لأن إدراكه مرتبط بالوعي، والامتداد لا يمكن أن تشرحه لشخص أعمى مثلاً، والخشونة كيف ستشرحها لشخص لا يمتلك حاسة اللمس…
الوعي + الموضوع المدرك= الظاهرة
الظاهرة= الماهية
لأن الماهية= الوعي + الموضوع المدرك
من أين تأتي الكليات إذن…؟ تكلم هوسرل عن الحدس المقولي الذي يصاحب ويحايث الحدس الحسي، أي أنك حينما تدرك الموضوع بالحواس فإن هناك شيئاً مقولياً عقلياً آخر يسقط على الوعي حدساً، وليس بالتجريد كما شرح أغلب الفلاسفة من قبله وبين ذلك هوسرل بفكرة فائض المعنى، فأنت لما رأيت سابقاً الكتاب في المثال السابق لم تر خلفيته (وجهه الخلفي)، ولم تر جوانبه كلها، ومع ذلك أدركت خلفيته لا عن طريق الحس، بل بالحدس المقولي.
مثلاً أنت عندما ترى منزلاً أمامك تحكم مباشرة أنه منزل، مع أنك لم تره من الخلف أو من الجوانب ولم تر داخله وتفاصيله، فلِمَ حكمت أنه منزل، يقول هوسرل إن هناك فائضاً للمعنى أدركه الوعي، لا عن طريق الحس بل بالحدس المقولي، أي أنك أكملت في وعيك خلفية وجوانب وتفاصيل البيت مباشرة حين رأيته.
ملاحظة أخيرة ليست لهوسرل وإنما هي خاصة بي:
حينما يتوجه وعي الإنسان تجاه هذا الوجود ككل، فإنه وفقاً لنظرية هوسرل سيستقبل وعيه حدساً مقولياً محايثاً للمعطى الحسي، ولذلك فإن فكرة الإيمان بوجود الإله مترسخة لدى الوعي الإنساني، لأنه يتلقاها من العالم الحسي حدساً مقولياً محايثاً، وحين يقول له الأنبياء إن هناك إلهاً فإنه لا يرفض، بل يتقبلها فطرياً، وكذلك في فكرة فائض المعنى، أي أن الوعي يكمل حلقة هذا الوجود الدنيوي بحلقة أخرى تكون بعده، لتكتمل الصورة لدى الوعي ولا تكون عبثية لديه، فهذا العالم هو بمثابة رواية أو قصة، لكنك أحياناً ترى أن أجزاء من القصة لم تكتمل، أو أن النهاية ليست كما نقبلها عقلاً، فتفترض أنت كقارئ أن كاتب الرواية سيكمل جزءاً آخر يكبكبها فيها، وهذه الحياة الدنيا كذلك تحتاج لحياة أخرى مكملة لها.