لم يكن الحبر الافتراضي في تقرير الاستخبارات الأمريكية الذي يُحمِّل محمد بن سلمان مسؤولية مقتل جمال خاشقجي، قد جفَّ حين استبعدت إدارة بايدن فرض عقوبات على ولي العهد السعودي، وهي الخطوة التي تقول مجموعات ومراكز الدفاع عن حقوق الإنسان إنَّها أساسية لضمان تحقيق العدالة للصحفي القتيل.
إذ أكَّد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الجمعة 26 فبراير/شباط، أنَّ واشنطن لن تتخذ إجراءات ضد ولي العهد نفسه. في حين كانت وزارتا الخارجية والخزانة الأمريكيتان قد أعلنتا فرض عقوبات بحق عشرات السعوديين على خلفية تورطهم في قتل خاشقجي وانتهاكات أخرى لحقوق الإنسان دون تحديدها.
وصرَّح بلينكن للصحفيين قائلاً: "ما حققناه بالإجراءات التي اتخذناها لا يهدف حقيقةً إلى تمزيق العلاقة (يقصد مع المملكة العربية السعودية)، بل لإعادة ضبطها لتكون أكثر تماشياً مع مصالحنا وقيمنا".
وكشفت وزارة الخارجية الأمريكية، في وقتٍ سابق من الجمعة، عن قيودٍ جديدة على منح التأشيرات تُسمَّى "حظر خاشقجي"، من شأنها السماح لواشنطن باستهداف "الأفراد الذين يتصرفون نيابةً عن حكومة أجنبية ويُعتقَد أنَّهم شاركوا مباشرةً في أنشطة خطيرة خارج الحدود ضد المعارضين".
من جانبها، قالت وزارة الخزانة إنَّها فرضت عقوبات على عدد من المسؤولين السعوديين، بينهم أحمد عسيري، النائب السابق لرئيس الاستخبارات السعودية وقت اغتيال خاشقجي، وأعضاء فريق الاغتيال الذي نفَّذ عملية القتل، والمعروف باسم "فرقة النمر" أو "قوة التدخل السريع".
لكن من دون معاقبة محمد بن سلمان، الذي تُقِرُّ الحكومة الأمريكية الآن علانيةً بمسؤوليته عن عملية القتل، لذا يقول بعض النشطاء والمشرعين، إنَّ العقل المدبر للاغتيال سيُفلت بجريمة القتل.
"غير معقول!"
وصفت أندريا براسوف، نائبة مدير مكتب منظمة هيومن رايتس ووتش في واشنطن، عدم فرض عقوبات على محمد بن سلمان بسبب جريمة القتل بأنَّه "غير معقول".
وصرَّحت براسوف لموقع Middle East Eye البريطاني، بالقول: "إنَّ حقيقة فرض الولايات المتحدة عقوبات على عدد كبير جداً من مساعدي محمد بن سلمان دون محمد بن سلمان نفسه يبعث برسالة مروعة تفيد بأنَّه كلما علا شأنك في الحكومة، زادت احتمالات أن تتمكن من ارتكاب الجرائم والإفلات من العقاب".
وأضافت: "يقوض هذا أيضاً مصداقية الولايات المتحدة. فمن الصعب أن نرى أي حافز أو رادع قد يدفع محمد بن سلمان لتغيير سلوكه، سواء داخل السعودية، أو سلوكه في الحرب باليمن، أو في الهجمات الأخرى على المعارضين خارج الحدود، حين يعلم أنَّ بإمكانه الإفلات بجريمة القتل".
كان خاشقجي مطِّلعاً على بواطن الأمور داخل الحكومة السعودية وصحفياً سابقاً يكتب لصالح صحيفة The Washington Post الأمريكية وموقع Middle East Eye. وكان مقيماً في الولايات المتحدة قبل وفاته. وقد قتله عملاء تابعون للحكومة السعودية وقطعوا أوصال جثته داخل قنصلية المملكة في إسطنبول، حين كان يحاول الحصول على أوراق شخصية في أكتوبر/تشرين الأول 2018.
وبعد الإصرار على أنَّ خاشقجي غادر المبنى على قيد الحياة، اعترف المسؤولون السعوديون بعد أكثر من أسبوعين من عملية القتل، بأنَّ الصحفي قد قُتِل. وتُصِرُّ الرياض على أنَّ الاغتيال كان عملية مارقة وقعت دون موافقة كبار المسؤولين. وتسببت عملية الاغتيال المروعة تلك في إرسال موجات صدمة في أرجاء واشنطن، فعظَّمت الانتقادات ضد المملكة في الكونغرس، لكنَّ الرئيس آنذاك، دونالد، ترامب تحرك لحماية الرياض، وعلى وجه الخصوص ولي العهد، من تداعيات العملية.
إذ رفضت إدارة ترامب طلباً ملزماً من الكونغرس لنشر تقرير بشأن النتائج التي توصل إليها مجتمع الاستخبارات الأمريكي حول تورط مسؤولين سعوديين في عملية القتل. لكنَّ إدارة الرئيس جو بايدن، الذي وصف في عام 2019 حينما كان مرشحاً للرئاسة آنذاك، السعودية بـ"المنبوذة"، نشر التقرير الجمعة 26 فبراير/شباط 2021، مُوثِّقاً ما كان الخبراء يقولونه لسنوات، وهو أنَّ عملية القتل التي تورط فيها مساعدون لولي العهد ما كانت لتتم دون علمه ومباركته.
فجاء في التقرير: "كان مستبعداً أن يشكك المساعدون في أوامر محمد بن سلمان أو أن يتخذوا إجراءات حساسة دون موافقته".
لكنَّ السعودية سارعت برفض النتائج، ووصفت التقييم الأمريكي بأنَّه "سلبي وكاذب وغير مقبول".
فرصة مجانية
بينما أشادت جماعات حقوقية بإصدار التقرير الأمريكي باعتباره خطوة نحو ضمان المساءلة عن جريمة قتل خاشقجي، لكن فشل إدارة جو بايدن في فرض عقوبات على الجاني الرئيسي أصاب كثيرين بخيبة أمل.
قال سيث بيندر، مسؤول الدعم والمناصرة في منظمة "the Project on Middle East Democracy"، لموقع Middle East Eye: "يحاول مسؤولو إدارة بايدن خلق توازن. إنَّهم يريدون مواصلة العمل مع شريك ارتكب فعلاً شنيعاً ضد مواطن حاصل على إقامة بالولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه اتخاذ بعض الخطوات نحو تحقيق المساءلة".
وأضاف مستدركاً: "لكن إذا كانت حقوق الإنسان ستكون، حقاً، في صميم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، كما ذكرت إدارة بايدن مراراً وتكراراً، فلا ينبغي لها منح القتلة فرصة مجانية للإفلات من العقاب".
تعهّد بايدن قبل توليه منصبه، بـ"إعادة تقييم العلاقات الأمريكية-السعودية". وبالفعل، بدأ منذ تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة المضي قدماً في ذلك المسار، إذ أوقف بعض مبيعات الأسلحة إلى الرياض وأعلن إنهاء دعم واشنطن للحرب السعودية في اليمن.
ومع ذلك، يطالب العديد من الناشطين المدافعين عن حقوق الإنسان والمُشرّعين الأمريكيين واشنطن باتخاذ نهج أكثر حزماً تجاه الرياض ومحمد بن سلمان. قال رائد جرار، مدير قسم المناصرة بمنظمة "Democracy for the Arab World Now: "ندعو إدارة بايدن إلى المضي قدماً في إجراءات المساءلة؛ لمعاقبة محمد بن سلمان شخصياً، إلى جانب أي شخص آخر متورط في هذه الجريمة".
وحثَّ جرار، خلال حديثه في مؤتمر صحفي بعد نشر التقرير الأمريكي، الولايات المتحدة على وقف جميع مبيعات الأسلحة إلى السعودية، قائلاً إنَّ "الشفافية لا معنى لها في غياب المساءلة".
وفي السياق ذاته، قال فيليب ناصيف، مدير برنامج كسب التأييد للشرق الأوسط وشمال إفريقيا بفرع الولايات المتحدة الأمريكية لمنظمة العفو الدولية، إنَّ "العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان قد خاب أملهم؛ من جرّاء قرار واشنطن عدم معاقبة محمد بن سلمان".
وأضاف ناصيف، في تصريحات للموقع البريطاني، إنَّ الكونغرس وإدارة بايدن يتعيَّن عليهما وقف مبيعات الأسلحة الهجومية إلى السعودية "ليس بسبب جريمة قتل خاشقجي فحسب، بل أيضاً لإساءة معاملة المعارضين داخل المملكة وجرائم الحرب المرتكبة في اليمن".
وتابع: "هذا يستلزم على أقل تقدير، إجراءً قوياً من الكونغرس وقراراً من إدارة بايدن يؤلم السعودية بشدة، من خلال حظر مبيعات تلك الأسلحة الهجومية، لأنَّ هذه خطوة من شأنها إيصال رسالة واضحة جداً إلى دول العالم بأنَّه يتعين عليها أيضاً اتّخاذ الإجراء نفسه. هذا ينطبق على فرنسا وبريطانيا وعلى مجموعة كاملة من الدول الأوروبية التي تبيع أيضاً أسلحة إلى المملكة العربية السعودية".
أعضاء في الكونغرس يطالبون بفرض عقوبات
قال أعضاء بارزون في الكونغرس من الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه بايدن، الجمعة، إنه يتعين على الرئيس فرض عقوبات على محمد بن سلمان. إذ أعلنت عضوة الكونغرس إلهان عمر، الجمعة، أنها تجهز لتقديم مشروع قانون لمعاقبة ولي العهد. ووصفت نشر التقرير بأنه "نقطة تحوُّل" في العلاقات الأمريكية السعودية.
وقالت عضوة الكونغرس في بيان: "حتى يومنا هذا ما زلنا نمد السعودية بأسلحة أمريكية تُستخدم في انتهاك حقوق الإنسان على مستوى العالم". وأضافت: "وحتى يومنا هذا، ما زلنا نتعاون مع النظام السعودي في حروبه، ونمده بمعلومات استخباراتية. ولا بد أن ينتهي كل هذا. ولا بد من إنزال عقوبات مباشرة بمحمد بن سلمان وموظفيه".
ومن جانبه، أشاد عضو الكونغرس آدم شيف، رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب، الذي لم ينفك يطالب بنشر التقرير، بهذا النشر لكنه قال إنه يتعين على الإدارة اتخاذ مزيد من الإجراءات لمحاسبة محمد بن سلمان. واستنكر الاكتفاء بملاحقة منفذي جريمة القتل دون الزعيم الذي أمر بها.
وقال شيف لشبكة CNN: "التقرير نفسه رائع في إشارته بعبارات لا لبس فيها، إلى أن ولي عهد المملكة العربية السعودية أمر باعتقال أو قتل صحفي مقيم في أمريكا، وإلى أن يديه ملطختان بالدماء".
وقال: "أود أن تتخذ الإدارة مزيداً من الإجراءات وتفرض عقوبات مباشرة على ولي العهد".
وشدد رون وايدن، العضو الديمقراطي البارز في مجلس الشيوخ، على ضرورة ضمان معاقبة محمد بن سلمان على جريمة قتل خاشقجي. وقال في بيان: "بتسمية محمد بن سلمان القاتل اللاأخلاقي المسؤول عن هذه الجريمة الشنعاء، بدأت إدارة بايدن-هاريس إعادة تقييم علاقة أمريكا بالسعودية وإعلان أن النفط لن يغسل الدماء".
وأضاف: "لا يزال يوجد الكثير مما يتعين فعله لضمان التزام الحكومة السعودية بالقوانين الدولية. ولا بد من فرض عقوبات شخصية على محمد بن سلمان- تشمل عقوبات مالية وقانونية وفي السفر- ولا بد أن تتحمل الحكومة السعودية عواقب وخيمة طالما لا يزال في الحكومة".
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.