يرى الرئيس الأمريكي، جو بايدن أنه يجب تغيير المسار السياسي والدبلوماسي تجاه إيران بشكل عاجل، معتبراً أن سياسة سلفه ترامب انتهت بالفشل، وجعلت إيران من وجهة نظره أقرب لامتلاك سلاح نووي. لكنه ربط أي عودة محتملة إلى الاتفاق النووي، بعودة طهران لكامل التزاماتها. من جهتها أبدت إيران ترحيبها بعودة الولايات المتحدة لمسار الاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، لكنها شددت على ضرورة اقتران ذلك بتعويض أمريكي عمّا تكبّدته منذ 2018 جراء إخلال واشنطن بالاتفاق. وفي ذات السياق تبحث إدارة بايدن دعم عملية إقراض صندوق النقد الدولي لطهران للتخفيف من آثار جائحة كورونا الاقتصادية والطبية.
ومن المتوقع أن تتطرق الإدارة الأمريكية الجديدة إلى ملف الأذرع الإيرانية المسلحة في الدول العربية، والدعم السياسي والعسكري والمالي الذي تقدمه طهران لتلك الميليشيات المسلحة. إذ تستخدمها طهران في تهديد أمن الدول الخليجية، وأمن "إسرائيل". كما تستخدمها في ضرب المنطقة الخضراء في العراق، والتي أنشأتها قوات التحالف الدولية التي غزت العراق عام 2003.
وستضغط الإدارة الأمريكية على إيران في ذلك الملف، وهو ما بدأ بالفعل في وقت مبكر من صباح الجمعة 26 فبراير/شباط 2021، عندما كانت سوريا على موعد مع أول عملية عسكرية يوافق عليها الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، حيث شنت طائرات أمريكية هجوماً وصف بـ"المحدود" استهدف مباني تابعة لما قال البنتاغون إنها ميليشيات مدعومة من إيران، في مقابل رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية، والعودة إلى الاتفاق النووي القديم، والسماح لطهران بتصدير النفط، ورفع تجميد الحظر عن الأموال الإيرانية في الخارج، والعمل على عودة الروح للاقتصاد الإيراني المتأثر بشدة من العقوبات الاقتصادية التي فُرضت بشكل مستمر من الإدارة الامريكية في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
والملاحظ أن الفترة الحالية تشهد تجاذبات في الملف الإيراني بين واشنطن وطهران والاتحاد الأوروبي، وتحرص إيران على تنويع أوراق التفاوض في يدها، إذ تتّبع سياسة دبلوماسية ضاغطة لإجبار أمريكا على رفع العقوبات بدون شروط، وأتوقع أن تؤول الأمور إلى رضوخ واشنطن للعديد من مطالب طهران.
موقف إدارة بايدن من تركيا
تتسم العلاقات الأمريكية التركية بالكثير من التعقيدات والتشابك التي تتحكم في مسارها مجموعة مختلفة من العوامل التي ساهمت في تقارب أو تباعد علاقاتهما على مدار العقود الماضية. وقد شهدت واشنطن وأنقرة مجموعة من الخلافات خلال عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولكن بعد فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن فإن هذا المتغير يمثل أهمية كبيرة في التأثير على مسار علاقاتهما.
وثمة توقعات بأن إدارة بايدن ستتخذ موقفاً حاسماً من شراء تركيا لنظام الصواريخ الروسية الصنع من طراز إس-400، علماً بأن إدارة ترامب كانت قد اتجهت إلى فرض عقوبات عليها بسبب تلك القضية.
وقد أدانت تركيا العقوبات الأحادية التي فرضتها الإدارة الأمريكية عليها بسبب صفقة منظومة السلاح الروسي معتبره الخطوة غير عقلانية، وأنها ستؤثر على العلاقات الثنائية بين البلدين. وستحاول واشنطن بشتى الطرق تحجيم علاقات تركيا مع غيرها من الدول، وخصوصاً، مع موسكو. إذ استطاعت تركيا خلال السنوات القليلة الماضية، وبطرق عدة، سحب نفسها من مربع الإدارة الأمريكية المهيمنة.
وتشير تصريحات الرئيس الأمريكي بايدن إلى اتخاذ الإدارة الجديدة مواقف صارمة من الإدارة التركية في قضايا مثل التواجد التركي العسكري في ليبيا حيث ساند ترامب هذا الوجود، وسمح للإدارة التركية بنقل واستخدام الأسلحة الأمريكية فيه، بينما بايدن ستكون له مواقف مختلفة عمّا فعله ترامب مع أردوغان فيما يخص الشأن الليبي، حيث قد تلجأ الإدارة الأمريكية إلى الضغط على تركيا لتقليل الوجود والتدخل العسكري التركي في ليبيا، وليس الخروج الكلي من ليبيا نظراً لوجود المنافس الأبدي الروسي هنالك. ومع ذلك لا بد من العلم أن تركيا اليوم لم تعد ذاك البلد الذي تتغير سياساته 180 درجة بتغير الوافد الجديد إلى البيت الأبيض.
وأتوقع حدوث انفراجة في العلاقات التركية الأمريكية، على خلفية دعوة الرئيس أردوغان بايدن إلى فتح قنوات الدبلوماسية والمصالحة في المنطقة، وتطبيع العلاقات مع الغرب، وذلك في ظل تطورات ميزان القوى في العالم، وسياسات الإدارة الأمريكية الجديدة التي ستتبعها في منطقة الشرق الأوسط. حيث يتوقع أن يتحرك بايدن من أجل تمكين حلف شمالي الأطلسي (الناتو) وإعادة وحدته ونفوذه في مواجهة المد الروسي المتنامي. لذلك تطالب أوساط عدة بالاعتراف بالدور التركي النشط في الملفات الإقليمية والدولية، واعتماد نهج واقعي، بما ينعكس إيجاباً على مستقبل العلاقات الثنائية بين تركيا والولايات المتحدة المثقلة بالأعباء منذ سنوات عديدة.
وقد أكّد على ذلك الرئيس التركي أردوغان في تصريح له يوم السبت 20-2-2021، بقوله: "إن المصالح المشتركة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية تفوق الخلافات، وإن بلاده ترغب في تعزيز التعاون أكثر مع الإدارة الأمريكية الجديدة على أساس "رابح-رابح"، وبمنظور طويل الأمد."
الموقف من مأساة سوريا والأزمة العراقية
تلوح مؤشرات تنبئ بأن إدارة الرئيس جو بايدن، ستتجه لتبني استراتيجية مختلفة عن إدارة سابقه دونالد ترامب، حيث ستعمل على استعادة الدور الأمريكي في سوريا، بعد تراجعه بشكل كبير خلال المرحلة السابقة، لصالح روسيا.
وتدرك إدارة بايدن أن استمرار سوريا كدولة فاشلة، سوف يترتب عليه تداعيات خطيرة، في مقدمتها استمرار معاناة الشعب السوري، وتدفق موجات جديدة من اللاجئين إلى الدول المجاورة، وتوفير أرضية خصبة للمنظمات الإرهابية المتطرفة، واحتمال عودة الاشتباكات المسلحة بين أطراف النزاع، مما قد ينعكس سلبياً على استقرار دول الجوار. ويبقى الاختبار الأهم لسياسات الرئيس جو بايدن وإدارته في سوريا، في مدى تعاطيه مع قرار مجلس الأمن 2254، الذي تم التصويت عليه في 18 ديسمبر/كانون الأول 2015، ونص على بدء محادثات السلام بسوريا في يناير/كانون الثاني 2016، وأكد أن الشعب السوري هو من يقرر مستقبل البلاد، ودعا لتشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات برعاية أممية، ووقف أي هجمات ضد المدنيين بشكل فوري.
بينما يمكن القول إن تركيز الإدارة الأمريكية الجديدة في العراق ينصب على ملف حقوق الإنسان، ودعم التغيير السياسي السلمي، خاصة إذا كانت مطالب المحتجين تتعلق بمكافحة الفساد، وإجراء انتخابات نزيهة وتقليل نفوذ إيران، تقابل بالرصاص وعمليات الاغتيال. إذ يمكن أن يكون لأمريكا حلول عملية بالتأكيد على الحفاظ على حقوق الإنسان في العراق، ولكن بالنسبة للمشهد السياسي الحالي في العراق، فالولايات المتحدة تدعم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
أما بخصوص التواجد العسكري في العراق، ففي الغالب لن تنسحب القوات الأمريكية بشكل كامل من العراق قريباً. فواشنطن عضو في التحالف الدولي الذي لا يزال يعمل في البلاد، والأوضاع في العراق والمنطقة باتت أشد تعقيداً مما كانت عليه قبل سنوات، وهناك أخطار جمّة محدقة بالبلاد، خاصة مع وبعد تدخل دول الجوار، واستمرار خطر تنظيم الدولة "داعش" الذي عاد لينفذ الكثير من الهجمات، فضلاً عن أن العراق لا يزال بحاجة للدعم الأمريكي الاستخباراتي والجوي.
بايدن والمسألة المصرية
تعدّ مصر دولة محورية لمستقبل المنطقة، فإذا نجحت سيبدو الشرق الأوسط أقل تخلّفاً، وإذا أخفقت فإن تشوّهات اليوم ستغدو أكثر قبحاً، وقد أثبت السيسي، الذي استولى على السلطة بعد انقلاب عسكري عام 2013، أنّه أكثر قمعاً من حسني مبارك الذي أطيح به في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011.
والملاحظ أنه على مدى الأعوام الأربعة الماضية، لرئاسة ترامب، رحّب عبدالفتاح السيسي بالوضع القائم الذي يركِّز فيه البيت الأبيض على محاربة التطرف، وتعزيز التعاون الأمني الإقليمي، من دون قيام الأخير بالحديث عن حقوق الإنسان والديمقراطية. غير أن احتمالية قيام إدارة بايدن بإعادة صياغة أولويات السياسة تلك تثير قلق وحفيظة القاهرة بشأن اللهجة المستقبلية، والمضمون المستقبلي للعلاقة الثنائية بين البلدين.
ومن أبرز دواعي القلق المصري ما صرّح به بايدن على تويتر أثناء ترشحه للرئاسة، بقوله: "لا مزيد من الشيكات على بياض لـ(الديكتاتور المفضّل) لدى ترامب"، بعد اعتقال أقارب الناشط الحقوقي محمد صلاح سلطان، الذي اعتقله السيسي في فترة سابقة، ويحمل الجنسية الأمريكية.
وهذا القلق المصري ينبع من عدة عوامل رئيسية، منها: أن بايدن ربما يتبع نهج أوباما، الذي لا يوافق على قمع الإسلاميين وإقصائهم من الحياة السياسية مادياً ومعنوياً، وكذلك مسألة انعدام حقوق الإنسان وغياب الانفتاح السياسي. لذلك يرى المسؤولون في القاهرة فرصة ضئيلة لإقناع بايدن بتجنب مواجهتهم علانية في مثل تلك الملفات، كما أن كابوس الحكومة المصرية الأسوأ يتمثل في قيام واشنطن بالضغط عليها لتخفيف الإجراءات القمعية ضد السجناء من السياسيين الليبراليين وغيرهم.
وفيما يتعلق بالعلاقات المصرية مع إسرائيل، سيواصل المسؤولون المصريون النظر إلى علاقات العمل الجيدة مع تل أبيب على أنها بوابتهم إلى أوساط السياسات في واشنطن، وهو المنفذ الذي قد يساعدهم على التخفيف من بعض مشاكلهم المحتملة في الكونغرس بشأن حقوق الإنسان وغيرها من القضايا، ولعل زيارة وزير الطاقة المصري، طارق الملا، الأخيرة لإسرائيل بتاريخ (21-2-2021)، خير دليل على ذلك.
ستستفيد إدارة بايدن من التمسك بأهداف متواضعة عند التعامل مع مصر، كضمان الإفراج عن جميع السجناء الأمريكيين والمباشرة بالإصلاحات الاقتصادية اللازمة لتجنب كارثة مجتمعية على المائة مليون مواطن في البلاد.
الخلاصة
الأيام القادمة ستكون حبلى بالتغيرات في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، بالمقارنة بما اتبعه ترامب، والمرجّح أن واشنطن ستقدم مصالحها على كل شيء، وسيستمر دعمها لإسرائيل، وستحافظ على مصالحها في منطقة الخليج، ولن تسمح لإيران بتطوير برنامجها النووي، وستحاول بشكل ملموس دعم حقوق الإنسان في المنطقة بما لا يتعارض مع أولوياتها، ومصالحها في منطقة الشرق الأوسط.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.