ثمة لغط كثير حول مستقبل العلاقات الأمريكية التركية، وحديث متكرر عن توتر مفترض بين البلدين في فترة رئاسة جو بادين للإدارة الأمريكية، يتم معه الاستدلال بتصريحات مكثفة، تحمل الكثير من الاتهامات الموجهة من قبل أمريكا لتركيا، سواء فيما يتعلق بزعم "دعمها للإرهاب وتشكيل قاعدة خلفية لتمويل داعش"، أو ما يتعلق بوضعية حقوق الإنسان.
والواقع أن هذه الاتهامات ليست جديدة، وهي جزء من أوراق اعتماد الديمقراطيين في ممارسة الضغوط لتحسين الوضعية التفاوضية مع تركيا.
تركيا بدورها فهمت اللعبة، وبادرت للجمع بين تكتيكين، تكتيك التأقلم مع أسلوب الديمقراطيين في اللعب على طاولة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وذلك من خلال دعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى دستور مدني ديمقراطي يمثل أول دستور مدني في الجمهورية التركية، فضلاً عن حديثه عن خطة عمل حقوق الإنسان المرتقبة والتي سيتم اعتمادها قريباً، وتكتيك المواجهة بالمثل، من خلال نهج التصعيد واتهام الولايات المتحدة الأمريكية بتدبير الانقلاب ضد أردوغان سنة 2016، بوقوفها إلى جانب فتح الله غولن الذي نسبت النيابة العامة التركية إليه ولتنظيمه المسؤولية عن تنفيذ الانقلاب، ودعمها لحزب العمال الكردستاني الذي يهدد الأمن القومي التركي.
لكن ثمة سؤال مهم يختبئ وراء هذه التكتيكات المتبادلة، يتعلق برؤية الديمقراطيين للسياسة الخارجية، وموقع الملف التركي فيها، وما المتغير الذي دفع إدارة جو بايدن إلى إعادة مراجعة موقفها من تركيا؟
من الزاوية الأولى، ليس ثمة في الرؤية الأمريكية ما يملي كل هذا الاهتمام بالملف التركي، فما يحكم رؤية جو بايدن، وقبله باراك أوباما، هو ترك الأمور الهامشية، والتفرغ لما هو استراتيجي بالنظر الأمريكي، أي إلى استعادة دور أمريكا القيادي في العالم، وإلى ملف الصين وروسيا، وبشكل أقل ملف الشرق الأوسط.
وكل ما يبرر الاهتمام بتركيا ودورها، هما أمران اثنان، أن رؤية الولايات المتحدة الأمريكية الجديدة لملف الشرق الأوسط، تشترط التفاوض مع إيران على ملفها النووي، ومنعها من امتلاك أي سلاح نووي، وهو الملف الذي سيجبرها لا محالة على تقديم تنازلات مهمة لفائدة إيران، ليس أقلها رفع الحصار عنها، وإيقاف مسلسل العقوبات الاقتصادية التي فرضها عليها دونالد ترامب في ولايته السابقة، وربما العودة إلى الاتفاق النووي، أو إبرام اتفاق نووي جديد، شبيه له في الجوهر. وأما الأمر الثاني، فيتمثل في متطلبات الريادة الأمريكية في العالم، وما تتطلبه من تقليص النفوذ الإقليمي لتركيا، والذي تمدد بشكل غير مسبوق بسبب سياسات ترامب.
في التقدير الأمريكي تتطلب الرؤية الجديدة للشرق الأوسط إعادة صياغة التحالفات في المنطقة من جديد، بشكل يحد من نفوذ تركيا في سوريا والعراق وشرق المتوسط وليبيا، وناغورنو قره باغ.
أما من زاوية تقديرها لدورها القيادي المرتقب في العالم، فإن ما يؤطر موقفها من تركيا نقطتان أساسيتان، تتعلق الأولى بتسلم تركيا سنة 2019 لأول نظام إس-400 روسي للمضادات الجوية، وتتعلق الثانية بموقعها في حلف الأطلسي، ورؤية أمريكا لما يتطلبه هذا الموقع من متطلبات تلزم سياسة تركيا بها.
تركيا التي أدارت التفاوض بشكل ذكي مع الاتحاد الأوروبي، ونجحت في أن تستعمل ورقة الهجرة بشكل مدروس لتوسيع نطاق أمنها الإقليمي، بإدارتها التفاوض مع الأطراف الدولية والإقليمية، لترجمة مطالبها بإنشاء منطقة عازلة في سوريا، وبعقد اتفاق أمني عسكري مع ليبيا لإحداث نوع من التوازن العسكري بها، فضلاً عن حماية مصالحها من مصادر الطاقة في شرق المتوسط. وقد دفعها ذلك إلى تحريك أوراق اعتماد مختلفة في التفاوض مع أمريكا في عهد دونالد ترامب، سواء في ليبيا أو سوريا، واستعملت ورقة منظومة إس 400 للجواب عن رفض الإدارة الأمريكية الترخيص لتركيا للانخراط في برنامج تطوير طائرة إف-35 الشبح بحجة أن الصواريخ الروسية قد تكشف أسرارها التكنولوجية وهي غير مطابقة لترتيبات حلف شمال الأطلسي.
والحقيقة أن ما تملكه الولايات المتحدة الأمريكية من خيارات للضغط على تركيا، لا يمكن أن يكون فعالاً إلا بشراكة استراتيجية مع إيران في كل من سوريا والعراق، وهو أمر مليء بالكثير من المخاطر، لأن استراتيجية إيران في المنطقة لا تتطابق مع سياسة أمريكا، وأن أي تقارب معها سيربك قاعدة التحالفات في سوريا، ويعطي مساحة أكبر للمناورة لتركيا، كما أن ذلك سيقرب وجهة النظر الروسية التركية في المنطقة.
ولعل هذا بالضبط ما يفسر التصريحات الأمريكية المطردة برغبتها في علاقات تعاون إيجابية مع تركيا، بل هذا ما يفسر تأكيد البلدين في تصريحات متبادلة عن الرغبة في إقامة علاقات "متينة" خلال أول تواصل رفيع جرى بين أنقرة (المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين) وإدارة جو بايدن الجديدة (مستشار الأمن القومي الأمريكي جايك سوليفان) حسب ما أفادت به وكالة أنباء الأناضول الحكومية.
ثمة حالة من الالتباس بين التصريحات التي تعبر عن الرغبة في إقامة علاقات متينة، وبين برود العلاقة التي تترجمها تصريحات تتضمن الكثير من الاتهامات المتبادلة، لكن تفسير هذه الحالة لا يفيد أبداً بإمكان تغير الموقف الأمريكي من تركيا ودورها في المنطقة، بقدر ما يفيد وجود قدر من الامتعاض الأمريكي من تجاوز الدور التركي للحدود التي تتصورها الولايات المتحدة لدوره كحليف عضو في حلف الناتو، فأمريكا تود الإبقاء على علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا، لكنها مستاءة بشكل كبير من توسع هامش الاستقلالية في القرار التركي، واستثمار تركيا للتحولات الإقليمية والدولية للقيام بأدوار فردية لتوسيع نفوذها الإقليمي، وذلك على حساب ما تراه أمريكا خروجاً عن مشترطات وجودها في الحلف الأطلسي.
ولذلك لا يتصور في الأفق القريب ولا المتوسط أن تتوتر العلاقات الأمريكية التركية، كما أنه ليس مرجحاً أن تنجح أمريكا في جعل ضغوطها السياسية ضد تركيا فعالة، فتركيا اليوم تملك أوراقاً أخرى قوية، منها التقارب المرتقب مع بعض دول الخليج ومع مصر، ومنها النفوذ الإقليمي الذي حصلته على واقع الأرض، والإكراهات التي تضغط على الموقف الإيراني في سوريا والعراق، وتمنعه من التواطؤ مع الإدارة الأمريكية ضد تركيا، فكل هذه الاعتبارات تجعل الدعم الأمريكي لحزب العمال الكردستاني محدوداً وغير فعال، كما تجعل استهداف تركيا اقتصادياً ومالياً من بوابة دول الخليج أمراً فعالاً، بالقياس إلى ما كان عليه الوضع زمن دونالد ترامب، بحكم أن دول الخليج نفسها، لا سيما منها السعودية، ستكون مضطرة إلى التقارب مع تركيا لتعزيز أمنها الإقليمي الذي سيكون على فوهة بركان بسبب سياسة أمريكا المرتقبة في اليمن وعلاقتها مع إيران.
التقدير أن ضغوط أمريكا لن تتجاوز دفع تركيا إلى التفكير ضمن سقف الحليف الاستراتيجي، وإعادة التفاوض مع أمريكا، على قاعدة القبول الجزئي بما حققته تركيا من نفوذ إقليمي في المنطقة، وربط استمرار علاقاتها الاستراتيجية بها وبالحلف الأطلسي بإعادة النظر في علاقتها مع روسيا ومنظومتها في الدفاع، مع الإبقاء على مساحة من التدافع والاختلاف الاستراتيجي في المنطقة، تستغله أمريكا لمنع تركيا من تحقيق تطلعاتها في توسيع نفوذها الإقليمي أكثر في المنطقة وتدفع تركيا لقدر من المناورة للضغط على حلفائها الأوروبيين والأمريكيين للتجاوب مع عناصر من مصالحها الاستراتيجية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.