من قبل أحداث عام 1860 الدامية وحتى دخول اتفاق الطائف حيز التنفيذ، ما زالت الرقعة التي شكلت لبنان الحالي ترزح تحت وطأة نزاعات لا تتوقف، حتى باتت الحرب الأهلية المادة الدستورية التي لا تتبدل. وتلو كل حرب أو اقتتال شعبي، كان يتم ترقيع النظام اللبناني بتسويات سياسية، بدلاً من استئصال أصل المشكلة وعلاج مسبباتها، سرعان ما تنهار تلك التسويات وتنحل خيوط الترقيع، نتيجة اختلال التوازن إما داخل النظام الإقليمي أو نتيجة ارتفاع حدة الصراع بين الدول الكبرى التي تصفي حساباتها في لبنان.
أما الأسباب والعوامل الداخلية لانهيار التسويات السياسية فهي من الثوابت الاجتماعية والسياسية في البلاد؛ لأن الكيان اللبناني وإن استطاع أن يتحول إلى دولة، إلا أن تلك الدولة ما زالت عاجزة عن تأصيل مفهوم الوطنية المتجاوز للطائفية، ولم تنجح الدولة في تأسيس وطن وإرادة سياسية مستقلة، حيث إن كل من مارس السياسة في لبنان قد حصل على منصبه وموقعه في مؤسسات الدولة كانعكاس لرغبة قوة أجنبية في ذلك أو نتيجة تحالفه وولائه لجهة خارجية قادرة على تأمين وصوله إلى جنة الحكم.
وبالتالي يمكن الادعاء بأن النظام اللبناني مهما تم ترقيعه وترميمه سيبقى آيلاً للسقوط في أي لحظة. وسيبقى نظاماً هشاً طالما أن زعماء الطوائف اللبنانية يحملون الشماسي كلما أمطرت في عاصمة عربية أو أوروبية، مما زاد نفوذهم في النظام الإقليمي والدولي. وطالما أن زعماء لبنان يرتضون أن يكونوا أداة في يد أمم أخرى سيبقى لبنان رهن الأوضاع الإقليمية والدولية.
لقد آن الأوان أن يستوعب كل من يعيش على أرض لبنان أن ازدهاره الاقتصادي قد أتى بعد النكبة الفلسطينية حيث دخلت أموال الفلسطينيين إلى لبنان إضافة إلى أموال الدعم الخليجي، وقبلها الأموال التي نزحت بعد عمليات التأميم التي وقعت في بعض الدول المجاورة، ولم تأت حقبة الازدهار تلك كنتيجة لمعجزة لبنانية ما أو من صيغة العيش المشترك بين الطوائف المختلفة في الداخل اللبناني، حيث إن متحف الطوائف المعروض في البلاد لا يمكن أن يجعل لبنان رسالة عالمية للتعايش كما توهم الكثيرون.
وبما أن ساسة لبنان عاجزون عن التغيّر، ظنوا أن الظروف والشروط الموضوعية لبقائهم لا تتغير أيضاً، فتحول لبنان نتيجة عقم تفكيرهم إلى دولة عميقة في البداية، تلتها مرحلة الدولة الفاشلة والآن نعيش الصراع الذي يجري حول تشكيل الحكومة بين الرئيسين عون والحريري الذي ما هو إلا دليل قاطع على بلوغ لبنان مرحلة التفسخ، رغم توهم جميع أمراء الطوائف بأن المبادرة الفرنسية التي تدغدغ شهيتهم لنيل بعض الأموال سوف يكتب لها النجاح رغم أنهم من يعرقلونها بأنفسهم.
أما الوقائع السياسية والتاريخية فتشير إلى ضعف ووهن فرنسا الداخلي، بينما نفوذها في الساحة الدولية يشبه نفوذها زمن احتلالها من قبل ألمانيا النازية، حيث اعتمدت على كرم الحلفاء لضمان بقائها على الخارطة الدولية. والكرم الأمريكي الذي تراهن عليه فرنسا اليوم لتحقيق بعض النفوذ في المنطقة عبر لبنان هو مراهنة خسارة، لذلك ستبقى المبادرة الفرنسية علكة يجترها أمراء الطوائف في لبنان في الفترة القادمة.
وما نتمناه هو أن يدرك اللبناني، أي لبناني، أن أمير طائفته يجب أن يقع تحت طائلة المحاسبة والقانون على ما قام به من فساد وإفساد سياسي واقتصادي واجتماعي. وأنه لا يصح أن يمنح مثل أولئك الزعماء الولاء الأعمى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.