قديمة هي الصلة بين علم النفس والسياسة، وهي كذلك صلة مثيرة.
وفي كتاب مهم صدر مؤخراً (2020) عن دار بالجراف ماكميلان، تناولت الأكاديمية البريطانية كاتي كوك، برشاقة وعمق، العلاقة بين علم النفس ووادي السيليكون. الكاتبة خبيرةٌ معترفٌ بها دولياً في مجالات تقاطع التكنولوجيا وعلم النفس والأخلاق. ومؤسس المركز غير الربحي للوعي التكنولوجي، وتعمل كمستشار ومتحدث في الموضوعات المتعلقة بالأخلاق والتكنولوجيا.
والكتاب مليء بالوقائع والأرقام والتحليلات. وقد كان من الطبيعي أن تحتل قصة كيمبردج أناليتيكا صدارة قصة وادي السيليكون المثيرة. الكتاب الذي اشتركتُ في ترجمته إلى العربية، يحمل الكثير من المفاجآت عن دور علم النفس في أسطورة وادي السيليكون، والبنية النفسية لبعض الأشخاص – والفئات – الأكثر تأثيراً فيه.
وإحدى القضايا التي توقفت أمامها المؤلفة كاتي كوك عدة مرات، الخطر الذي أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تمثله على الديمقراطية في الغرب والعالم، وهي قضية يؤكد الكتاب أنها تسبق الكشف عن فضيحة كيمبردج أناليتيكا، وتشمل تأثيرات أكثر عمقاً وأوسع نطاقاً. وبعد استعراض وافٍ للحقائق، وبعد تحليلات تستعين بطيفٍ واسعٍ من التخصصات، تفاجئ المؤلفة قراءها باستنتاج مدهش. فبعد استعراض القيم الأكثر تأثيراً في بعض أكبر الشركات حجماً، تقول إن فريدريك فيلو، أستاذ الصحافة في معهد باريس للدراسات السياسية، قارن القيادة في شركة فيسبوك بـ"النظام الاستبدادي"، مشيراً إلى أن الشركة تشترك في اللبنات الأساسية نفسها للديكتاتورية، وضمن ذلك: الأيديولوجية القوية، والقيادة شديدة المركزية، وبيئة تشبه العبادة، والرغبة في السيطرة على جميع جوانب المجتمع، وقلة التسامح مع الآراء المخالفة.
وهذا التشابه البنيوي بين أساليب الإدارة المشار إليها والنظم الاستبدادية يضع يدنا، للمرة الاولى، على المخاطر التي تنجم عن سيادة منطق العامل الواحد الذي يحرك أية ظاهرة، وهو في حالة وادي السيليكون: "المال". وفي أية مؤسسة (دولة أو شركة أو غيرهما) يؤدي الفصل الصارم بين: "الكفاءة" و"القيم" إلى التحول صوب الاستبداد، والعواقب – في حالة شركات وادي السيليكون الكبيرة – وخيمة.
هذا الدرس القيم الذي تقدمه دراسة في علم النفس، نموذج للثمن الفادح الذي تدفعه شعوبنا نتيجة الفقر في العلوم الإنسانية. فخلال قرن مضى غلبت على نتاجاتنا الفكرية بشكل كبير – أضراره أكبر – اهتمامٌ مبالغٌ فيه بالأيديولوجيات والتنظير الفكري والسياسي على الدراسات في العلوم الإنسانية.
وكما استنتج الباحث الفرنسي بذكاء، تؤكد الإحصاءات والتحليلات الواردة في الكتاب أن: الافتقار إلى السواء النفسي في من يديرون المؤسسات، والارتكاز على قدم واحدة (السعي وراء الربح وحده في حالة وادي السيليكون) تقرع جرس إنذار من المهم الانتباه له، وللمخاطر التي ينبه إليها. والاجتماع الإنساني (في كل المجالات تقريباً) محكوم منذ فجر تاريخ البشرية حتى اليوم، بقوانين لا يجوز خداع النفس بشأنها، فالتأثيرات الأخلاقية، وكذلك الثمن الإنساني، لاختياراتنا، حتى لو استعصت على القياس الرقمي، تظل بُعداً يتعرض لقدر متزايد من التهميش، اكتفاءً بـ"أرقام" العوائد المادية وحدها، يعرض قسماً لا يستهان به من البشرية، لمخاطر كبيرة.
وفي وادي السيليكون، بسمعته الأسطورية، وتأثيراته التي لا سابقة لها في التاريخ، وعوائده المادية الضخمة، وشعاراته البراقة، ومؤسساته التي أصبحت تنفق على جماعات الضغط في واشنطن ضعف ما تدفعه شركات وول ستريت، يخفي وراء زجاج بناياته المصقولة ثقافة تجتمع فيها سمة الأنظمة الاستبدادية كافة.
ومع معطيات عديدة – بينها فضائح التدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية واستفتاء "البريكست" – تبدو التقنية الرقمية وسيطاً لا مناعة لدى مؤسساته تحميه من الاستبداد. فهل يشهد القرن الحادي والعشرون "مسار تدفق معكوس" تنتقل فيه الأفكار والممارسات الديكتاتورية من واحدة من أعرق الديمقراطيات في العالم لتنتشر في قارات العالم، أم تمسك "القيم" (ولو جرئياً) بدفة القيادة، مستلهمة ثروة حقيقية من المبادئ تجعل الديناصور الرقمي يسير بخطى أكثر اتزاناً؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.