يعتبر حراك 20 فبراير واحداً من أهم المحطات النضالية الكبرى التي شهدها تاريخ المغرب المعاصر، حيث انتفض المغاربة في مختلف مدن البلاد طيلة أشهر، من أجل مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية جوهرية عبر أشكال سلمية حضارية، في سابقة هي الأولى من نوعها، لتكون أول هبة جماهيرية شاملة ممتدة تنادي بالتغيير، حيث اختلفت على الانتفاضات الخبزية المتقطعة التي عرفتها مدن محدودة في فترات متباعدة، ما سهل على النظام المغربي التنكيل بها في وقتها.
أما الحراك العشريني فقد استعصى على محاولات قمعه، وقد شكل فرصة ذهبية للقطع مع ماضي التغول السلطوي في البلاد، لولا عقبات ساهمت في إجهاض التجربة.
المفارقة أن تلك الضربات القاصمة التي تلقتها الحركة جاءت ممن يفترض بهم أنهم أبناؤها أو المستفيدون منها بشكل أو بآخر، قبل أن تأتي من معسكر السلطة التي لم يزدها استهدافه لها إلا إشعاعاً وانتشاراً.
كما أن الاحتراب الأيديولوجي بين مكوناتها ليس هو من أجهضها، خلافاً لما يعتقده البعض، ذلك أنه وإن ساهم في إرباك أوضاعها الداخلية ووتر الأجواء بين أعضائها، فإنه لم يكن إلا نتيجة لوضع مختل اصطدمت به الحركة منذ بداياتها، والمتمثل في تباعد المحتجين وتنافر مطالبهم، ما جعلها تجد صعوبة كبيرة في استقطاب حركاتهم الفئوية وصهرها في بوتقتها.
الواقع أننا كنا أمام حركات متعددة، وأن الحراك المركزي الذي خلق مزاجاً معارضاً احتجاجياً داخل المجتمع المغربي، وشجع على تناسل الاحتجاجات كان يوظف كغطاء من طرف أصحاب المطالب الجزئية لمساومة الدولة وابتزازها، وتهديدها بالالتحاق بـ20 فبراير، في حالة عدم الاستجابة لها، وهو ما أسهم في إخراج المخزن من عنق الزجاجة، الذي عاد ليسترد جل ما أعطاه للبعض منها في لحظات الجزر النضالي التي جاءت بعد ذلك، أما غالبيتهم فقد كان يجري وراء السراب، وذهب تزلفه للسلطة أدراج الرياح.
حيث تناسلت المجموعات المحتجة على الدولة من معطلين ومجموعات فئوية مثل الأساتذة وأئمة المساجد وغيرهما، ومن انتفاضات مناطقية كما في خريبكة وتازة أو من خلال تمرد الباعة المتجولين، الذين فضلوا احتلال الشوارع وقبل بعضهم توظيفه من طرف السلطة في عرقلة النضالات الفبرايرية على المطالبة بحلول جذرية تقطع مع معاناتهم.
كما ظهرت مجموعات أخرى تبنت ملفات غير مستحقة ميعت الحركة الاحتجاجية، كل هؤلاء فضلوا تحسين شروط العبودية عوض الخروج من نفق فساد السلطة واستبدادها المظلم.
الجحود تجاه 20 فبراير عبر عنه أيضاً المتقاعسون عن الانخراط في نضالاتها، الذين قبلوا برشاوى الدولة للتخلف عن ركب 20 فبراير مثل رشوة 600 درهم التي أسكتت جل المنتسبين إلى الوظيفة العمومية أو الآلاف ممن كانت الحركة سبباً في انتشالهم من شبح البطالة أو المعتقلين السلفيين وغيرهم، والذين ضنوا بكلمة عرفان لـ20 فبراير، بل إن منهم من تخصص في هجائها، رغم أنهم ما نالوا من المخزن إلا بتضحياتها، وليس من أجل سواد عيونهم.
كل هذا عزل الحراك المركزي عن بعض القطاعات المجتمعية، فرغم حشوده الكبيرة فإنه اقتات على شعبية بعض مكوناته، وما كان ذلك ليحسم معركة الحرية والكرامة التي رفعها في وجه النظام المخزني. ومع توالي الأسابيع كان طبيعياً أن يتلهى الفرقاء ببعضهم البعض، وأن تستدعي فئة منهم عداوات الماضي وتصفي حساباتها القديمة داخله، في غياب كتلة مستقلة قوية تجنب الحركة الصراعات الأيديولوجية بين أطراف متنافرة تلتقي فيما بينها لأول مرة، حتى إن التمييز بين فسيفساء المتظاهرين وتحديد انتماءاتهم أضحى يسيراً بالعين المجردة. وحدها تنسيقية طنجة من شكلت الاستثناء واستطاعت بتنوعها استيعاب فئات مجتمعية واسعة، الشيء الذي خلق قدراً من التفاهم والانسجام بين مكوناتها، ولو أن النموذج الاحتجاجي الطنجاوي عمم في مدن غيرها لتغيرت المعادلة بشكل كلي.
عقوق 20 فبراير لم يقتصر على النشاط الجماهيري المباشر في إطار الحركة، فحتى شعاراتها وروحها الثورية التي أمدت المجتمع بجرعات من الوعي ومن الشجاعة، وشكلت طفرة في الخطاب السياسي، تعرضت لطعنة غادرة من أطراف لمعتها الحركة، والتي عاكست مبادئها عبر انخراطها في الانتخابات التي طالما هتف أنصارها بأنها مسرحية، والتي رضيت بلعب دور الكومبارس في المؤسسات الشكلية. ونفس الشيء حدث مع أشخاص برزوا في الحراك وباعوا أسماءهم وخبراتهم التي راكموها لأحزاب أو جمعيات مخزنية.
ومنهم من أجروا أقلامهم لعدد من الصحف الموالية، وما عاد يُسمع لهم اليوم همس، بعد أن كانت لهم صولات وجولات في المنابر الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي. وهناك أيضاً من لزموا الصمت وأصيبوا بحالة من الإحباط المزمن، وجل حديثهم عن التغيير وعن 20 فبراير اجترار للذكريات وكأنهم شيوخ بلغوا من الكبر عتياً، وكأن التغيير نزهة وليس مساراً شاقاً وطويلاً، لكنهم بعد أن افتقدوا وهج اللحظة الثورية الاستثنائية وما أضفت عليهم من وجاهة مع دائرة معارفهم آنذاك، أعلنوا تقاعدهم المبكر ولما يبلغوا بعد الأربعين من أعمارهم.
المؤسف أن الإباء والشموخ الفبرايري بدأ يتآكل على الصعيد المجتمعي، وفي أوساط المعارضين، بسبب سيادة منطق الانحناء أمام العاصفة المخزنية، فقد ارتكس الخطاب المعارض من جرأة مساءلة الثوابت المخزنية والسخرية اللاذعة منها إلى الانتقال إلى خطاب الاسترحام، وإلى الخطاب الدفاعي البكائي الذي يتوسل السلطة ويدعوها إلى التعقلن وإلى الحكمة، وهو خطاب غير مسبوق حتى في ذروة سنوات الجمر والرصاص. والمحصلة كارثية، فكلما زادت التنازلات زاد سعار السلطة التي أصبحت تنكل بالجميع بمن فيهم بعض أنصارها.
ما يحدث اليوم يرقى إلى درجة الخيانة لشهداء 20 فبراير ولعموم الشهداء الذين بذلوا دماءهم من أجل حرية هذا الوطن وكرامة أبنائه. والمطلوب اليوم هو استئناف ما بدأه الحراك العشريني، إذ لا خيار أمام المغاربة غير هذا الخيار لإيقاف النزيف الشامل الذي لا يرتقب أن يتوقف حتى يأتي على البلاد بأسرها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.