في خضم استعدادي للامتحانات النصفية، ونهاية مرحلتي الدراسية، أعلنت الحكومة الأردنية عن أول إصابة بفيروس كورونا والدراسة ستكون بطريقة التعلم عن بعد. وقتها لم أدرك ما طبيعة هذا الطارئ الجديد، وآلية انتشاره، وسبب وجوده، كل الذي أعرفه من وسائل الإعلام أنه فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة، وأن مصدره الصين. ومع الإعلان الرسمي، كان ضرورياً وقف عملية التعليم، وفرض الحظر الإلزامي على البلاد، والانتقال إلى التعليم عن بعد. وفي محاولة استيعاب هذا الكم الهائل من القرارات، كان لزاماً على الطلاب التفاعل مع النمط الجديد للتعليم، مع تسجيل الطالب غائباً ما لم يتجاوب ويشارك. ولم تكن تجربة التعليم عن بعد تخلو من بعض المصاعب؛ بدءاً من سوء شبكة الإنترنت، انتهاءً بسلوكيات جديدة لم أعهدها خلال مسيرتي الدراسية.
مشاركة صاخبة
كان من الواضح أنني مقبل على مصاعب كبيرة بخصوص التعلم عن بعد، وكان الصخب الذي يصل لحد الضوضاء في غرف برنامج "Teams" (معتمد في أغلب الجامعات الأردنية)، لا يحتمله منطق ولا عقل. فعدد طلاب مادة الإنجليزي مثلاً يفوق عن 300 طالب، ولو أراد كل واحد منهم المشاركة في معلومة ما، فسيضيع وقت المحاضرة بين الأخذ والرد. وهكذا استمر الحال مع أغلب المساقات؛ إذ لا توجد آلية محددة تنظم سير العملية التعليمية، ولا رقابة إدارية تسيّر عمل المدرسين. وقتها بدت علامات الضجر قد ملأت أعين المدرس وهو يقول: "لا أستطيع سماعكم، أنتم تشاركون مرة واحدة وتصدرون الأصوات مرة واحدة.. لا يمكنني أن أشرح الدرس بهذه الطريقة". وبعد هذه الكلمات لا أستطيع المشاركة أو السؤال؛ فالمدرس ينزعج من أصواتنا المتداخلة، ولا يريد طرح أي استفسار أو نقاش، وتدخل المحاضرة في جو استبداد؛ فلا صوت يعلو فوق صوت المدرس. ومع تفهّمي لسلوك المدرس في هذه اللحظة فإنني أشعر بنقص ينتابني، فالتفاعل مع المدرس أحد أهم أركان العملية التعليمية، المبنية على المناقشة والمحاورة، وهنا أنت لا تتفاعل، بل تصبح كقطعة جماد تسمع ولا تتكلم، تأخذ ولا تعطي، تنفذ دون اعتراض، وتمضي في طريقك بانتظار جولة أخرى يسمح لك فيها بالمشاركة.
سلوكيات جديدة
مع عدم القدرة على المشاركة في بعض المساقات، وعدم فهمي لمعظمها، تأخذني حينها جوارحي نحو نوم عميق يغيّب عني المعارك الجدلية الطاحنة داخل الغرفة الإلكترونية. فأنا لا أفهم عما يتحدث المدرس، وماذا يجري هناك، وحتى لو حاولت.. فسأجد أمامي مشكلة الشبكة الوطنية تقف حائلاً بين الاستيعاب ومحاولة إرجاع التغطية. المهم، بعد انقلاب المزاج، وتعكُّر النفس، أفضّل الغرق في النوم تاركاً المدرس يستعرض عضلاته المعرفية، ويحدّث طلابه عن مغامرته الشقية. وفي غمرة النوم، أسمع صوتاً يتحرك نحوي، وإذ به صوت فتاة متحمسة متشوقة لإثبات حضورها.. فتقول: "يعطيك العافية دكتور". وهنا لا شعورياً أتحرك نحو المدرس وأعيد عليه الجملة نفسها، لكي أثبت وجودي في المحاضرة.
سنة كاملة وأنا لا أشعر بطعم التعليم الوجاهي، تعليم يحتم عليك التفاعل وتبادل النظرات مع مدرسك، ويوفر لك بيئة خصبة لترى تفاعلات حقيقية غير متخيلة، وتبادلات بين زملاء على أرض الواقع بعيداً عن أجواء التعليم الإلكتروني ومصاعبه. ورغم ذلك، ساهم التعليم عن بعد في إراحة الطلبة من الاستيقاظ مبكراً، وانضباطهم في مواقيت محددة، وساهم في إزاحة مشكلة التفاعل التي يواجهها بعض الطلبة.
مظالم لا تنتهي
مع اقتراب موعد الامتحانات، جهزت نفسي جيداً، وبدأت مراجعة المساقات؛ حتى أتأكد من أن الأمور تجري على ما يرام. وعندما حان الوقت، تبين أن الأسئلة كانت فضائية غير واقعية، وربما تحتاج مختصاً كي يحاول فك رموزها. وهنا المدرس يضع أصعب الأسئلة؛ حتى يطمئن بأن أحداً لا يغش في الامتحان، ولكن مع ذلك، تبرز مظالم لا تعد ولا تحصى، بدءاً من صعوبة الامتحان، مروراً بالظلم الذي يقع على الطالب ضعيف المستوى، وانتهاء بنظام توزيع العلامات المجحف.
وبعد سنة كاملة في هذا النمط الملل، تخرجت والحمد لله، واستطعت اجتياز جميع الاختبارات -رغم صعوبتها- الجامعية. وتعلمت الكثير من هذه المحنة، تعلمت أن المصائب تهون مقابل صحة الإنسان، وأن الظروف تحتم على المؤسسات اتخاذ أصعب القرارات. وتفهمت الدور العظيم الذي قدمه بعض المدرسين، من إصرار على إعطاء المساقات حقها، وعدالتهم في توزيع العلامات، وتقديم التسهيلات كافة للطلبة. ورغم كل ذلك، بقيت المقارنات تلاحق فكري، مقارنات بين التعليم الوجاهي وما يصاحبه من مميزات، والتعليم عن بعد وما يعتريه من سلبيات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.