تمهد البدايات طريق اللاعب رفقة فريقه الجديد، خاصةً إذا كان المهاجم الرئيسي للفريق، يحتاج المهاجم أن يسجل هدفه الأول سريعاً ليتمتع بالثقة اللازمة داخل الملعب. هدف ثانٍ من أجل كسب ثقة الجماهير، لكن ماذا عن هدف ثالث خلال ثالث مباراة، ثم هدف رابع وأسيست في الرابعة، ثم هدف آخر أيضاً؟ إنها حتماً دلالة أن الرجل وجد بيئة مناسبة وملائمة للتألق.
كي تعرف الحكاية من بدايتها، حكاية لاعب أخذ طريق الكفاح عنواناً لحياته، فمصطفى محمد المتألق في جالاتاسراي حالياً في سن 23 سنة، مع انفتاح الأبواب أمامه لصناعة مسيرة عظيمة بمواصلة اجتهاده وتطوره، كان هو الشاب نفسه الذي بكى في عام 2016 عندما كان عمره 18 عاماً، عندما علم بخروجه كإعارة من ناديه الزمالك.
هو الشاب نفسه الذي اجتهد في كل من الداخلية وطنطا وطلائع الجيش، حتى أجبر نادي الزمالك بمستوياته غير المعهودة مؤخراً بالنسبة للمهاجم المصري، أن يقطع إعارته فوراً ويصبح المهاجم الأول لفريقه الأصل، بل يصبح المهاجم الأول لمنتخب مصر أيضاً.
قبل أن يصبح مصطفى هو المهاجم الأول للمنتخب الوطني المصري، لنعود بالشريط الزمني للخلف قليلاً مرة أخرى، حيث انتهت بطولة أمم إفريقيا لعام 2010 بغانا، وكان محمد ناجي جدو بطلها الأهم والذي ظننا أن من بعده لن تُرسل السماء لمصر مهاجمين بتلك النوعية من جديد، لا سيما بانخفاض نجم محمد ناجي جدو نفسه سريعاً. لكن وبعد ذلك بعام واحد فقط، قررت أكاديمية وادي دجلة الاستغناء عن ناشئ يلعب في مركز المهاجم اسمه "مصطفى محمد".
بدأ ذلك المهاجم الشاب حياته كلاعب لفريق مزارع دينا قبل الانتقال لوادي دجلة. وخلال عامين لم يكتشف مدربو الأكاديمية في دجلة ما يمكن التنقيب عنه في موهبته، فتمت التضحية به في عمر 13 عاماً، ليقرر من بعدها خوض رحلة الاختبارات في قطاعات ناشئي الأندية الأخرى، وكان للزمالك نصيب في أن يتم قبوله بين صفوفه.
تدرج الشاب الصغير في الأعمار السنية حتى وصل الفريق الأول عام 2016، في ولاية المهاجم السابق لمنتخب مصر، أحمد حسام ميدو، وأحد من تسلموا راية القيادة من جيل الأسطورة المصرية حسام حسن في عام 2006. لم يحتَج ميدو إلا ساعتين فقط منذ توليه مهمة تدريب الفريق الأول بنادي الزمالك، قبل أن يقرر استدعاء المهاجم الشاب للانضمام للتدريبات.
تقابل مهاجم توتنهام السابق مع مصطفى محمد قبل ذلك بعامين تقريباً، وقت أن قرر مدرب الناشئين "مدحت عبدالهادي" أن يقوم باستغلال قوة الشاب البدنية وعنفوانه وسرعته، في أن يكون ظهيراً أيمن لفريق الشباب بالزمالك. حين ذلك كان ميدو رئيساً لقطاع الناشئين، فتقدم إليه مصطفى بطلب رسمي ليعود إلى مركزه المفضل والأصل كرأس حربة.
كانت فكرة المدرب مدحت عبدالهادي في وضع مصطفى محمد في هذا المركز، أن الفريق يملك بالفعل وفرة عددية في خط الهجوم، بـ4 مهاجمين تقريباً.
تلك المشكلة كانت عامة في كل قطاعات الناشئين بمصر، مشكلة كثرة عددية، وما زالت تتواجد كأحد أهم أسباب الفقر التقني في مصر في التعامل مع المواهب، باهتمام كبير بالكَم وليس الكيف، فجاء مصطفى ليغير كل ذلك. حيث إن كل ما كانت تحتاجه مصر منذ فترة طويلة، هو معادلة بسيطة جداً، مهاجم يستطيع تسجيل الأهداف، فقط لا غير. يمكنه تسجيل الأهداف من فرص بسيطة وألا يحتاج الأمر إلى عناء لأن تتحول الفرصة السهلة إلى أهداف.
ما هو ثعبان الأناكوندا؟ وما علاقته بمصطفى محمد؟
ثعبان الأناكوندا هو فصيلة من فصائل البوءات، وهي ثعبان كبير الحجم يصل إلى 6 أمتار في الوضع الطبيعي، وهناك بعض الطفرات إن وصلت إلى 10 أمتار.
وهي ثعبان غير سام، ولكن تقضي على فرائسها بالضَّم والضغط على الجسم، حتى يتفتت عظمها وتتفجر عروقها، وهذا بفضل جسمها الطويل وهيكلها العظمي المميز، حيث تتراوح فقراتها من 200 إلى 400 فقرة تساعدها على الحركة والعصر والسباحة. وباستطاعتها بلع رجل بالغ كاملاً، وعند وجود فريسة أخرى ترمي ما في بطنها وتلتهم الفريسة!
نوع مصطفى محمد من المهاجمين هو النوع الأكثر فاعلية من بين كل أنواع المهاجمين، لذلك سماه الإعلامي بلال علام بالأناكوندا، ليس فقط لأنه يقوم بمهمة المهاجم الأولى وهي التسجيل من مختلف الوضعيات وأنصاف الفرص، لكن لأنه دائماً يوجه وجهه لمرمى الخصم، هجَّام ويضغط على المدافعين باستمرار لحجزهم في أماكانهم، ولصناعة مساحة لصناع اللعب في الثلث الأخير، لذا هو عنيف في أدواره، وعنيف هنا معناها متطرف وهجام كمهاجم، ليس فقط عنيف بدنياً في أمور الضغط العالي في أبعد أماكن الخصم.
يُجيد مصطفى محمد الضغط على المدافعين بشكل مبهر، في الدوري المصري 2019، استطاع أن يستخلص الكرة من المدافعين بنسبة 68% من تدخلاته عليهم، تلك ليست نسبة توضح فقط امتيازه في هذا الجانب الذي يمتاز به قِلة من المهاجمين في إفريقيا، لكنها أثبتت تأكيداً لاكتساح مصطفى في هذا الجانب مقارنةً بكل مهاجمي عصره في إفريقيا، أنه استطاع أن يضغط على المدافعين وقت بنائهم للهجمة، وكان شبه مؤكد تشكيله لخطورة، حتى لو كانت قليلة.
لذلك مصطفى هو أفضل مهاجم في مصر ومن الأفضل في إفريقيا في القدرة المطلقة على مهاجمة الكرة طبقاً لتمريرات زملائه له، ومهاجمة المساحة بنفسه في التحولات الهجومية، ومهاجمة المدافع في وضع 1 ضد 1 بنظام الرقابة الدفاعية للخصم، من الصعب بل من النادر الحصول على مهاجم يمتاز بالثلاث مميزات في وقتٍ واحد، تلك أول مصادر خطورته في التسجيل.
بجانب امتيازه الخارق في التسجيل بالرأس، وبذِكر امتيازه في مهاجمة المدافع، فمصطفى محمد يستطيع كيفية توقع مسار الكرة، ينتظر لحظات حتى يأخذ المدافع القرار ويبدأ في تنفيذه، ويبدأ هو في التصرف من خلاله، عكس ما يفعله معظم المهاجمين في العادة، حيث إنهم هم من يمثلون الفعل، والمدافعون هم من يمثلون رد الفعل ضدهم.
بطولة دوري أبطال إفريقيا 2020، وامتياز مصطفى محمد
في البطولة التي انفجر فيها مصطفى محمد مع الزمالك في دوري أبطال إفريقيا، تحديداً في النهائي ضد الأهلي، طلب المدير الفني الحالي لنادي الزمالك وهو البرتغالي جايمي باتشيكو، أن يضغط مصطفى محمد على أيمن أشرف، لأنه أفضل لاعب في دفاع النادي الأهلي- قبل بدر بانون- يستطيع الخروج بالكرة وقت ضغط الخصم، ويتصرف بها بشكل سليم.
بالتالي استطاع باتشيكو أن يجبر موسيماني في بدء الهجمة من مربع ياسر إبراهيم، الأضعف من أيمن أشرف، كي يقوم بتحويل أسلوب لعبه إجباراً لكرات طولية في عمق الملعب الدفاعي للزمالك، ويظهر بالمظهر الضعيف الذي ظهر به هجومياً في النهائي.
السؤال هنا، والذي يوضح لنا خاصية أخرى في شمولية مصطفى محمد: من كان مكلفاً بمهمة الخروج في الثنائيات مع لاعبي الأهلي للكرات الطولية في الصراعات الهوائية؟ هو اللاعب ذاته مصطفى محمد، بسبب تفوقه الكبير في ألعاب الهواء، لذلك لعب كمهاجم محطة في تلك المباراة، ورغم أن دوره التهديفي كان شبه معدوم في المباراة، لكن استطاع باتشيكو أن يبرز للجميع دوراً من أفضل الأدوار التي يقوم بها مصطفى محمد بجانب دوره التهديفي في العادة.
في نفس البطولة، اختاره موقع 'Total Football Analys' كأفضل لاعب في البطولة، وأكثر المميزات التي تم اختياره على أساسها كانت قدرته التهديفية العالية، سواء بالقدم أو الرأس.
مصطفى كان هداف البطولة بـ4 أهداف، صحيحٌ أنه ليس بالعدد الكبير من الأهداف، لكنه سجل 3 أهداف بالرأس من تلك الأربعة، والأهم أن الظروف التي تم تسجيل الـ4 أهداف فيها ليست بالظروف الكبيرة وتكاد تكون منعدمة، وتلك ميزة أخرى للاعب، أنه يسجل من أنصاف بل أرباع الفرص، أنصافها وأرباعها إحصائياً بالفعل، فالإحصائية التي توضح الأهداف المتوقعة للاعب أو إحصائية xG، تقول إن فرصة تسجيل كل هدف من الأربعة على الترتيب.. 0.14 و0.05 و0.13 و0.38.
لاحظ أنه إذا كانت إحصائية xG لأي فرصة تساوي 1، فهي فرصة سهل جداً للتسجيل، ورغم ذلك، كل أهداف مصطفى محمد في البطولة كان تقييمها لم يصل حتى إلى 0.5.
النجم الذي سطع في وقت صغير
في جالاتاسراي، استطاع مصطفى محمد أن يبرز ميزة قوية جداً لم تأخذ حقها من المدح في مصر، وهي تخلصه من ضغط المدافعين، ودور مهاجم المحطة بشكل عام الذي يستطيع من خلاله أن يجذب المدافعين ناحيته، بحيث يمرر الكرة في المساحة المتولدة للقادمين من الخلف، ذلك هو أساس دور مهاجم المحطة، الذي يلعب دور المساعد لكل زملائه في الملعب.
وبشكل عام، مصطفى محمد لا يحتاج فرصاً كثيرة ليسجل، حقيقة ظهرت في مصر وضد أكبر أندية إفريقيا، ووضحت تماماً في تركيا، هذا أهم دور للمهاجم الذي يرتدي رقم 9، ومن هنا يتضح أنه يستطيع أن يسجل كَماً كبيراً من الأهداف بشكل مستمر، خصوصاً أن مصطفى قوي بدنياً، بالتالي سيتأقلم في الأراضِ الأوروبية بشكل سريع كما حدث، يستطيع أن يضع أي لاعب في موقف صعب من خلاله للحصول على الكرة، كمهاجم شامل يُجيد كل الأدوار.
سجل الأناكوندا المصري مع جالاتاسراي 4 أهداف وأسيست في 4 لقاءات، منها حسم مباراة الفوز لجالاتاسراي في أهم مباراة في الدوري التركي ضد فنربخشة.
المبهر هنا ليست تلك الأرقام فقط، بل أزيدك من الشعر بيتاً، أنه كان الأكثر محاولة على المرمى من زملائه، برصيد 12 محاولة منها 10 بين القائمين، وكان يستطيع أن يسجل أكثر من الأربعة أيضاً، بأربع تسديدات في القائم خلال تلك المباريات، منها تسديدة إعجازية في القائم ضد ألانيا سبور، وتسديدة أخرى ضد الحارس الذي قام بصدها بشكل إعجازي.
كل الظروف ملائمة لكي يلمع مصطفى محمد في تركيا أكثر وأكثر، بل قد يصبح أهم لاعب كرة قدم داخل تركيا خلال ستة أشهر فقط. نتمنى له الاستمرارية والتطور ومواصلة الاجتهاد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.