تعيش مالي سلسلة طويلة من التوترات العرقية والاجتماعية منذ سنوات عديدة، ولقد أضاف التواجد الفرنسي في المنطقة للمشهد السياسي مزيداً من التعقد، على الرغم من أن مختلف الصحف والمواقع الإخبارية الفرنسية تصف مالي بـ"المستنقع الذي يستنزف فرنسا ويستهلكها".
ولكن في الحقيقة فإن التواجد الفرنسي في مالي هو السبب في تزايد عمق مستنقع الأزمات، ويعتبر السكان المحليون الوجود الفرنسي إضفاء لشرعية المؤسسات الفاسدة، مما زاد من سخطهم ورفضهم لفرنسا، وتصاعدت المطالب والمظاهرات المنددة بالحكومة الفاسدة والتواجد الأجنبي المهدد لأمن المواطنين وأمن الدولة، فبعد مرور ثماني سنوات على تدخل فرنسا عسكرياً في مالي، هل أصبحت مالي أكثر أماناً أو استقراراً مما كانت عليه عندما وصل الفرنسيون؟ وما هي تداعيات هذا التدخل داخلياً وخارجياً؟
في البداية يجدر بنا الحديث عن أهمية مالي اقتصادياً وسياسياً لمعرفة الأسباب الأساسية التي جعلتها مستهدفة من الأطراف الخارجية.
أهمية مالي الاقتصادية والجيوبوليتيكية
تُعتبر مالي إحدى الدول الغنية من حيث الثّروات الطّبيعية؛ إذْ تعتبرها فرنسا منطقة نفوذ حيوي، فهي تزخر بالعديد من المعادن والثروات من الذهب، البوكسيت، اليورانيوم، الحديد، النحاس، اللتيوم، المنجنيز، الفوسفات والملح.. ومعادن أخرى استراتيجية، إذْ تعد ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا وغانا؛ لهذا فإن مالي تعتبر دولة مهمة وغنية، وقد ساهمت هشاشة نظامها السياسي في تسهيل المهمة على فرنسا لاستغلالها، ولكن لا يقتصر طموح فرنسا على الجانب الاقتصادي فقط، فهذه الدولة الإفريقية مهمة جيوبولتيكياً؛ حيث تمتد على مساحة 1,240192 كيلومتراً مربعاً، لتحتل بذلك المرتبة 24 عالمياً من حيث المساحة.
وتتوسط مالي 7 دول إفريقية؛ حيث تشترك في الحدود مع موريتانيا 2237 كم غرباً، والجزائر 1376 كم شمالاً، وبوركينا فاسو1000 كم شرقاً، وغينيا 858 كم جنوباً، والنيجر 821 كم الشمال الشرقي، وكوت ديفوار 535 كم جنوباً، والسنغال 419 كم، مما يجعل موقعها الاستراتيجي العسكري مهماً جداً.
فهي دولة حبيسة، ولكن لها حدود مع دول مهمة، وسيكون التواجد الفرنسي فيها بمثابة تواجد واطلاع على كل تحركات الدول الـ7، فهي تقع في العمق الاستراتيجي للدول المغاربية.
مالي تحاذي العديد من دول الساحل التي يمتاز باطنها بثروات بترولية كبيرة، منها موريتانيا الغنيّة بالنفط، إذْ تحصل شركة "توتال" الفرنسية على النصيب الأكبر منه، إضافة لامتلاكها مخزوناً مهماً من الحديد المهم لصناعة الصلب في أوروبا، هذا بالإضافة لحقول النفط الجزائرية التي تشكل مطمعاً كبيراً للفرنسيين.
بداية الأزمة في مالي
دخلت مالي في حربها بتمرد مسلّح لسكان إقليم أزواد سنة 2011، ومنذ عام 2013 تاريخ بداية التدخل العسكري الفرنسي، لم تتغير الأوضاع الأمنية في المنطقة المضطربة التي تعيش حالة حرب، ففي الحقيقة لم ينجح التدخل الفرنسي في استئصال الإرهاب كما كان مخططاً له عند دخوله ولا يقتصر الأمر على استمرار وجود الإرهاب فقط، بل إنه انتشر في دول المنطقة أيضاً، مما يعني تعقد الأزمة أكثر.
وتوجد عدة أسباب تقف وراء إيصال مالي إلى مستوى الدولة الفاشلة التي ينتشر فيها العنف والفساد والجريمة المنظّمة، فعدا عن فساد وفشل الحكومة في الحفاظ على الأمن الداخلي، فإنّ أزمات الجوار الحيوي المالي وفشل الدول الغربية المنخرطة (فرنسا في المقدمة) في محاربة الإرهاب ساهمت في تعقيد الأزمة المالية، وكانت سبباً خلف تكرار العمليات الانقلابية.
وحرب الساحل والصحراء التي تخوضها القوات الفرنسية في شمال مالي دخلت بدورها العام التاسع بعد أن تخلت قوات فرنسية في إطار عملية "القط البري" سرفال في يناير/كانون الثاني 2013، دون أن تتمكن القوات الفرنسية من حسم المواجهة مع الجماعات الإرهابية في صحراء إقليم أزواد.
في الحقيقة لا تقتصر تداعيات التواجد الفرنسي السلبية على مالي فقط، بل هي تهديد لأمن مختلف الدول الإفريقية، فإن الضربات العشوائية والأخطاء المتكررة من طرف الجيش الفرنسي في مالي من الممكن أن تصل إلى الدول المجاورة.
هل يواجه التواجد الفرنسي في مالي أزمة؟
يثير التواجد الفرنسي في الدول الإفريقية بشكل عام الشك والريبة، فكونها القوة الاستعمارية السابقة يرسخ في عقول الكثيرين العديد من القناعات بأنَّ وراء الوجود الفرنسي في الساحل مطامع مخفية، كما لا يُنْظَر إلى فرنسا على أنها محايدة؛ حيث يُشْتَبَهُ دائماً في تدخلها في صنع الحكومات أو تقويضها في المنطقة وتدعيم الأنظمة الفاسدة.
وإن الشكوك تجاه فرنسا في مالي لها جذورها أيضاً في الخلافات القديمة المرتبطة بطرد المهاجرين السريين والدعم المفترض لمسلحي الطوارق في الشمال.
وأدى مقتل 100 مواطن مالي بينهم أطفال ونساء في غارة جوية يشتبه في أنها فرنسية إلى سخط المواطنين والرأي العام في مالي.
وليست هذه المرة الأولى التي يُقتل فيها مدنيون على يد القوات الفرنسية، ما تسبب في حالات غضب وغليان في صفوف الماليين، تجلت في المظاهرات المنددة بالتواجد العسكري الفرنسي ببلادهم، وانتقادات دبلوماسية للممارسات هؤلاء الجنود.
ولقد منعت السلطات المالية تنظيم مظاهرة، في قلب العاصمة باماكو للمطالبة بإنهاء التواجد العسكري الفرنسي في البلاد، متحدثة عن قيود لمكافحة وباء كورونا المستجد.
ولا يقتصر رفض التواجد الفرنسي على الجانب الإفريقي فقط، فلقد تصاعدت دعوات الرأي العام الفرنسي بسحب جنود بلادهم من الساحل، خصوصاً أن القتال في المنطقة تحول إلى حرب استنزاف مفتوحة في أوساط معادية، حيث أصبحت المنطقة بؤرة صراع دموي وازداد عدد الضحايا المدنيين في الفترة الأخيرة.
الدور الأمريكي في مالي
تحاول الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أن تجعل من نفسها الوريث الدولي للنفوذ الاستعماري داخل القارة الإفريقية ، ويعتبر وجودها طويل الأمد في المنطقة خاصة في مجال التدريب والدعم وجمع المعلومات الاستخبارية.
وبدأت الجهود الأمريكية بعد وقت قصير من هجمات 11 سبتمبر/أيلول بإطلاق مبادرة (PSI)، التي تهدف إلى زيادة القدرة على مكافحة الإرهاب في مالي والنيجر وتشاد.
ومنذ هجمات سبتمبر/أيلول 2012 على المنشآت الأمريكية أثناء الاضطرابات في بنغازي، ليبيا، شكلت وزارة الخارجية والبنتاغون قوات للرد على الأزمات في القارة التي قد تهدد حياة الأمريكيين.
وهذا ما سهل من مهمة التواجد الأمريكي في مالي تحت غطاء حماية المصالح الأمريكية، وقد سارعت الولايات الأمريكية في التدخل بعد الانقلاب العسكري الأخير ورفضت أفريكوم الإفصاح عن عدد القوات الأمريكية في مالي، مشيرة إلى مخاوف أمنية وعلى على مدى سنوات، ساعدت الولايات المتحدة عمليات مكافحة الإرهاب في مالي، فهل سيهدد التواجد الأمريكي في مالي تواجد فرنسا؟
تعمل "أفريكوم" على مزاحمة النفوذ الفرنسي، لذلك تحاول الولايات المتحدة استخدام ذات النهج الاستباقي في التعامل مع دول الساحل الإفريقي، من خلال أدوات أمنية، وتواجد وحداتها العسكرية، وتدريبات مشتركة، وطرح مشروعات استثمارية واقتصادية تخدم ذلك التوجه، والتدخل بصورة مباشرة في مناطق الأزمات، إلى جانب محاولة فتح مجالات التعاون والتنسيق مع الدول والمنظمات الإفريقية القارية والإقليمية العاملة في منطقة الساحل الإفريقي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.