قليلة هي الأفلام الأمريكية التي تُشارك شخصيتين متناقضتين في البطولة بعملٍ ما، إلا إذا كانت مقتبسة عن قصة حقيقية، كفيلم "أمسكني لو استطعت" Catch Me If You Can الصادر عام 2002، والمنتج بواسطة شركة DREAMWORKS السينمائية العالمية.
الشخصية الأولى (خيّرة) لـ"توم هانكس" بدور عميل FBI في قسم "الجرائم المالية"، يدعى "كارل هانراتي"، ويلاحق من خلاله محترف تزوير "شيكات مصرفية" وشهادات مزاولة لوظائف مرموقة (طيار مدني، محامٍ، وطبيب).
أما الشخصية الثانية (المُلاحقة) لـ"ليوناردو دي كابريو"، الممثل ذي البراعة في إتقان الأدوار، وتقمص عدة وجوه في الفيلم الواحد (شرير، رومانسي، محتاج، مصارع لأجل البقاء، مبتكر، محترف، مسكين..)، ويؤدي في هذا الفيلم دور الشخصية الحقيقية لـ"فرانك أباغنيل"، محترف تزوير الشيكات في نهاية الستينيات في الولايات المتحدة الأمريكية.
تدور مشاهد هذا الفيلم بالمجمل حول قصة شاب لم يكمل العشرين عاماً، تدفعه ظروف عائلته الاجتماعية والاقتصادية (انفصال والديه) للاحتيال والتزوير، ويصبحان مع مرور الوقت النمط اليومي له. استطاع "أباغنيل" جمع مبلغ 4 ملايين دولار أمريكي، بفضل قدرته الفائقة على تزوير شيكات مصرفية على أنها شخصية، وهو مبلغ مرتفع مقارنةً بوقتنا الحالي. ولم تكن مهنته التزوير، بل كانت وسيلته الشخصية للوصول.
باختصار، الفرد الأمريكي يصوّر دائماً على أنه بطل وذكي، ويستطيع التكيف مع واقعه بطرق شتى، حتى وإن كانت (غير أخلاقية). لكن في هذا الفيلم يبرز أيضاً رجل العدالة والتحري، يقضي أوقاتاً طويلة في عمله بإخلاص وشجاعة، وعشق للوظيفة وتقديسها.
فـ"هانراتي" لم يكن كرجال مخابرات الأنظمة العربية، يستبد ويبطش، يسجن ويُعذب! على العكس من ذلك وظّف انتماءه لوطنه وشعبه، في استقدام "غريمه" الجاني في تقديم مهارات الأخير لمكتب التحقيقات الفيدرالي، فانتزع قراراً بالإفراج عنه مقابل تطوّعه لدى FBI طيلة فترة عقوبته؟ هذه قصة حقيقية على أية حال.
وفي العام 1974 أصبحا صديقين حميمين، لا، السجن أو الإعدام وسيلتان دائمتان للانتقام أو عقاب المذنب (ليس كل المذنبين طبعاً). هل يمكن كما في الفيلم أن يُعطى الجاني فرصة لتكفير ذنبه؟ فـ"أباغنيل" بفضل خبرته في تزوير الشيكات صار يتقاضى مليون دولار سنوياً من شركات غنية عديدة لمساعدتها في حماية حقوقها المالية، عن طريق إنشاء "شيكات آمنة" للبنوك والشركات الكبرى.
أنْ تسرق وتزوّر فتلك جريمة، أما إن كنت محترفاً فيمكن من خلالها أن تحقق مبتغاك، هذا ما أراد الفيلم أن يظهره، الرأسمالية منظومة متشعبة ومعقدة، طرق اكتساب المال عديدة، والنظام الليبرالي يفتح للفرد طاقات متنوعة تنقله من "الإجرام المالي" إلى "نادي الأثرياء"، فلم يستسغ المعنيون أن يقبع خبير شيكات في السجن لأنه أذنب؟
التكامل سمة رئيسية في المنظومة الأمريكية، فالسياسة والاقتصاد والفن والإعلام والبحث العلمي تتفاعل مع بعضها البعض. فالدبلوماسية الأمريكية تستعين بالسينما للترويج والهيمنة على الأمم، والاقتصاد الهائل يعطي منشأه الصعود الدولي والتربع على قمة النظام الدولي، والكفاءة الإعلامية تولي اهتماماً لحفظ الإنجازات.. وهكذا دواليك. ففي هذا الفيلم (محور التدوينة) عظمة الإخراج والتصوير، وكأن المشاهد ينتقل لعالم الستينيات بما تحمله من فترة ذهبية، وعصر التقدم البشري والحضري، واستحضار الثقافة الأمريكية الكلاسيكية، فن العالم "الهوليوودي" القوة الناعمة.
استطاع هذا الفيلم أن يرسخ فكرة في غاية الصعوبة، وهي أن النظام السياسي- الاقتصادي الأمريكي متماسك رغم شعارات الليبرالية. لا يجب أن ننسى أن الولايات المتحدة ارتكزت في بنائها على قيم مادية تولي المال (الدولار) مكانة عظيمة، أُزهقت بسببها أرواح كثيرة واستنزفت طاقات هائلة، ولهذا فمحترف التزوير هو صديق لعميل الـFBI!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.