كانت الأربع سنوات التي قضاها الرئيس دونالد ترامب على رأس أقوى دولة في العالم غير تقليدية بالنسبة لتاريخ الولايات المتحدة وتقاليد الحكم في أعرق ديمقراطيات العالم، تنكر فيها الرئيس المنتهية ولايته لفيروس كورونا، فكلف الولايات المتحدة مئات الآلاف من الضحايا والعاطلين عن العمل واقتصاداً متضرراً، ونقض الاتفاقيات الدولية ونشر الفوضى والعنصرية، مما مس بطبيعة الدولة الأمريكية.
لكن يبقى هجوم أنصار ترامب بعد خسارته الانتخابات على مبنى الكونغرس حدثا داخليا فريدا يزاحم في أهميته أحداثا خارجية لكنها غيرت مجرى التاريخ الأمريكي مثل الهجوم على بيرل هاربر سنة 1941 الذي نتج عنه دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، وبعدها قادت المعسكر الغربي في الحرب الباردة، وأحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي أعلنت بعدها الولايات المتحدة الحرب على الإرهاب وظهرت بعدها كممثلة لنظام القطبية الأحادية وانفرادها بقيادة العالم والتصرف بصورة فردية.
وسيبقى ترامب في الذاكرة كأول رئيس في التاريخ الأمريكي يحاكم برلمانياً بهدف العزل مرتين، بعد اتهامه بالتحريض على التمرد ضد الحكومة الأمريكية، وعرقلة الانتقال السلمي للسلطة؛ مما يهدد أمن وسلامة ومصالح الولايات المتحدة وديمقراطيتها.
ما جعل مستقبل أمريكا ما بعد ترامب ومآلات اتجاهات دبلوماسيتها وعودتها لقيادة العالم مركز اهتمام الدراسات والبحوث، لكن قليلة الأوراق التي سلطت الضوء على فوضى تركة ترامب في الداخل الأمريكي، لهذا تحاول هذه الورقة البحث في مدى تأثير إرث سياسات ترامب في تقويض البنية الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية.
الأمة المنقسمة
لم تكن أمريكا منقسمة إلى هذا الحد الذي بلغته في عهد ترامب، لدرجة اعتقد معها كبار المفكرين الأمريكيين بأن بلادهم على شفير حرب أهلية ثانية، وتجلى ذلك بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة التي كانت تاريخية، فبعد إعلان جو بايدن الفوز بها خرج دونالد ترامب ليرفض الاعتراف بالهزيمة ويصف الانتخابات بالمزورة ورفع دعاوى قضائية للطعن في نتائج الانتخابات.
كان ولأسابيع طويلة بعد الانتخابات الرئاسية في حالة إنكار تام للوقائع، لكن مع اقتراب موعد تنصيب جو بايدن، أصيب بالجنون التام، وأصبح مستعداً- بدعم من قاعدته العنصرية وأزلامه من أمثال وزير خارجيته "مايك بومبيو"- إلى الانقلاب على الشرعية من أجل البقاء في السلطة.
فشلت المحاولة وانتفض حزبه ضده، لأن ما حصل دمر سمعة الجمهوريين، وسيحتاج الحزب لسنوات قبل أن يمحو من ذاكرة العالم صورة المحاولة الانقلابية التي ارتبطت برئيس يمثله.
فاز بايدن في الأخير، لكن أكثر من 74 مليون أمريكي قدموا دعمهم لترامب، بزيادة 9 ملايين صوت مقارنة بانتخابات 2016 والتي فاز بها ضد هيلاري كلينتون. فرغم التسيير الفوضوي للبيت الأبيض والتجاوزات التي قام بها في فترة ولايته وأيضاً فشله في التعامل مع جائحة كورونا، لكن حدث العكس، فقد استطاع دونالد ترامب توسيع وعائه الانتخابي مقارنة بالانتخابات السابقة، فأمريكا المحافظة، أمريكا العميقة وأمريكا المسيحية لم تتخلَّ على أفكار ترامب الذي أغراها بالخطاب المناهض لغير المسيحيين البيض والرافضين لحقوق الأقليات ومحاربي الإجهاض وتسهيلات حمل السلاح، إضافة إلى الوعود بالازدهار الاقتصادي.
وهذا ما أكدته نتائج الانتخابات الأخيرة بظهور اتجاه مقلق بين "أمريكا الحمراء" (الحزب الجمهوري) التي ترى في وصول باراك أوباما ظاهرة تعبر عن خلل وتريد أن تعيد المجد للأمة البيضاء.
وفي المقابل، فإن هناك "أمريكا الزرقاء"، الديمقراطية التي ترى في التنوع البشري نعمة، تحتقر الرأسمالية المتوحشة، تؤيد التأمين الصحي للجميع وترفع علم المساواة في الحقوق.
أما الواقع فكشف شعبين في دولة واحدة، وكان الخط الذي يربط بينهما رقيقاً دوماً إلى أن مزقه ترامب تماماً.
في البحث عن الهوية
كان الاستقطاب الحاد الذي برز في فترة حكم ترامب سبباً في الانقسام الأمريكي مهماً في بروز التحديات التي تواجه الهوية القومية الأمريكية للعلن وتجذر الأصولية لدى جزء كبير داخل المجتمع الأمريكي، مما أفرز عدوانية موجهة ضد كل ما يخالفهم من إثنيات وثقافات وديانات.
معركة القومية لفت إليها من قبل عدد من مفكري أمريكا ومنظريها، ومنهم صامويل هنتنغتون، في كتابه "من نحن؟ المناظرة الكبرى حول أمريكا"، ومحورها الصراع الهوياتي الكامن في النفس الأمريكي، فهناك تيار يرى أمريكا بيضاء نقية تقية من غير أن يخصم أحد من روحها، وأن الأجناس والأعراق المختلفة التي ارتحلت إليها في وقت مبكر، قد قبلت بفكرة بوتقة الانصهار، أي التخلي عن أي تمايز عرقي أو هوياتي، لصالح المجموع الأمريكي.
على الجانب الآخر هناك من يرفض هذا التوجه، بل يعتبره عنصرياً، ويرى أن أمريكا لوحة من الفسيفساء، وفيها يتوجب على كل جنس أو عرق أن يحتفظ بهويته ومكوناته الثقافية، وأن يكون له الحق في أن يمد جذوره بعيداً وأن يشكل من حضوره في أمريكا جسراً مع الماضي، يصله ولا ينفصل عنه.
نفخ ترامب في أصحاب التوجه الأول، والذين يتذكرون مشهد حمله للكتاب المقدس أمام إحدى كنائس واشنطن خلال تظاهرات الصيف الماضي، عليهم أن يتفهموا كيف أن الرجل كان يبعث برسالة إلى مؤيديه من المتطهرين أو البيوريتانيين (مذهب مسيحي بروتستانتي)، هدفها الواضح ضرورة الحفاظ على المكتسبات الخاصة بالرجل الأبيض، وعدم السماح بتغيير طبيعة التركيبة الديموغرافية الأمريكية بنوع خاص.
ومن التحديات الخطيرة والمهمة التي تواجه الولايات المتحدة، غياب المعايير الأخلاقية في قيم المجتمع الأمريكي، مع ما يرافق ذلك من انتشار قيم الاستهلاك والفساد والجريمة المنظمة وتعاطي المخدرات، بحيث إن جرائم القتل، تعد العامل الأول للوفاة في الولايات المتحدة، وهذا بحد ذاته يؤشر لعدوانية المجتمع إزاء أفراده.
صعود الفاشية
بعد قرن من الزمان على مسيرة بينيتو موسوليني الزحف إلى روما سنة 1922 اعتقد العالم بسقوط الفاشية والنازية نهائياً بعد الحرب العالمية الثانية، لكن في الولايات المتحدة لم تعد بعض الجماعات اليمينية المتطرفة تخفي رغبتها في خوض معركة الاستحواذ على السلطة بالقوة، وذهبت إلى حد اقتحام الكونغرس الأمريكي وقلب الديمقراطية الأمريكية بدعوة من الرئيس المتهور الذي أظهر قدرته على حشد جماعات ذات عقيدة فاشية تشبه ما حدث في أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، كان صدمة للعالم ولحظة مجللة بالعار.
فبعد انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة عين "ستيف بانون" في منصب كبير مستشاري الرئيس للشؤون الاستراتيجية وأدخله مجلس الأمن القومي وهو محسوب على تيار اليمين المتطرف. هذا التيار الذي يعتقد بأن العرق الأبيض مهدد بالانقراض ويستعمل خطاب الهوية والكراهية من أجل الحشد على المنصات الإخبارية، وقد شهدت أفكارهم رواجاً في السنوات الأربع الأخيرة. إضافة إلى خطابات وتصريحات الرئيس ترامب التي كانت سبباً رئيسياً وراء ازدياد النشاط القومي الذي يرى في خطاب الرئيس الأمريكي تعبيراً عن وجهات نظرهم المختلفة سواء بخصوص التفوق الأبيض أو معاداة المهاجرين في أمريكا، وكشف مقتل جورج فلويد المواطن الأمريكي من أصل إفريقي أثناء اعتقاله من طرف شرطي أبيض عن ترسخ العنصرية داخل المجتمع الأمريكي، وكانت تلك الحادثة بمثابة نهاية الأوهام التي ذاعت في الولايات المتحدة إبَّان انتخاب باراك أوباما في عام 2008، أوهام من قبيل "أمريكا ما بعد العنصرية" أو "أمريكا بلا ألوان". تلك الحادثة كانت شرارة لانطلاق الاحتجاجات في شتى أنحاء الولايات المتحدة وصلت إلى العاصمة واشنطن، ما أدى إلى إغلاق البيت الأبيض، وأثارت ردة فعل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، جدلاً واسعاً عندما قال في خطاب له في البيت الأبيض إنه إذا فشلت المدن والولايات الأمريكية في السيطرة على المظاهرات وحماية السكان، فإنه سيرسل الجيش ليحل لهم المشكلة بسرعة، على حد وصفه. وقبلها طالب ترامب بنشر الحرس الوطني، وهو القوة الاحتياطية للجيش التي يمكن استدعاؤها للتدخل في حالات الطوارئ المحلية، بأعداد كافية للسيطرة على الشوارع.
الخطاب البذيء والعنصري والسلوك عديم الأخلاق صار نهجاً مقبولاً لترامب تبنته الجماعات القومية البيضاء وأيديولوجيات تفوق العرق الأبيض أو أيديولوجيات انفصالية بيضاء، وتركز غالباً على النقص المزعوم لغير البيض.
تعرف منظمة "سذرن بوفرتي لو سنتر" (غير حكومية)، المتخصصة بمتابعة جماعات الكراهية في الولايات المتحدة مجموعات الكراهية على أنها أولئك الذين "لديهم معتقدات أو ممارسات تهاجم أو تشوه فئة كاملة من الناس، بشكل عام بسبب خصائصهم الثابتة"، ووفقاً لتقديرات نفس المنظمة فإن الجماعات العنصرية تنقسم إلى منظمات عدة، أشهرها، وربما حتى أقدمها "كو كلوكس كلان" (KKK)، ولها 130 فرعاً، و"النازيون الجدد" (Neo-Nazis)، ولها 99 ذراعاً، و"حليقو الرؤوس" (Skinheads)، ويتوزعون على 78 تشكيلاً، و"القوميون البيض" ( White supremacy)، ولهم 100 تنظيم.
خسارة ترامب الانتخابات كانت بمثابة ضربة لأفكارهم لكن "إدوارد لوس" يعتقد أن هزيمة ترامب لن تكون كاسحة لأن الشعب الأمريكي تأثر أيديولوجياً أكثر من أي وقت مضى، وعلى بايدن وفريقه الاهتمام بها ودراسة وفهم بروز أفكار ترامب لأن المكونات لا تزال موجودة. وأن أغلب من يتبعون ترامب مثل وزير الخارجية "مايك بومبيو"، هم أكثر تشدداً منه. فعلاج أمريكا متشعب ومؤلم ومثلما أن اللقاح لن يقضي فجأة على الوباء فإن ذهاب ترامب لن يقضي على أفكاره.
تراجع القوة الناعمة
من خلال الأحداث التي وقعت في الولايات المتحدة كشف مؤشر وحدة المعلومات الاقتصادية (EIU) عن تدهور حالة الديمقراطية بالولايات المتحدة مستندا إلى 60 مؤشراً مختلفاً، بالإضافة إلى المؤشرات التقليدية ــ أي مهام الحكومةــ اشتمل أيضاً على مؤشرات أخرى مثل المساواة بين الجنسين والحريات المدنية، والثقافة السياسية، ونجد أن دقة مؤشر (EIU) تستمر في إظهار الواقع اليومي للسياسة الأمريكية: الاستقطاب السياسي والثقافي المتطرف؛ تنامي تأثير الجماعات المسلحة وعنف الشرطة؛ إساءة معاملة المهاجرين غير الشرعيين، بمن فيهم الأطفال؛ وأخيراً تهميش الأقليات في البلاد في مجال السياسة وما إلى ذلك.
وإذا حكمنا من خلال المؤشرات المذكورة أعلاه من حيث عددها وتنوعها وعمقها، سنجد أن نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي ورفض ترامب تسليم السلطة كان لها تأثير كبير على حالة الديمقراطية الأمريكية، وأعمال العنف في الكابيتول على وجه الخصوص ستضعف قدرة الولايات المتحدة على الدفاع عن الديمقراطية وسيادة القانون وسيزيد من خفض مرتبة الدولة التي كانت تفتخر بديمقراطيتها باستمرار، ليس فقط لكونها ديمقراطية كاملة وعريقة فقط ولكن أيضاً لمناصرتها ورعايتها الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، وأن المفاهيم التي يتخذها صناع القرار الأمريكي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا تعدو غير ادعاءات زائفة أكثر من كونها ممارسة حقيقية.
ما أعطى خصوم واشنطن المفترضين الكثير من الحجج لإدانة عقود من الخطاب الأمريكي والسياسة الأمريكية. فقد كتب رئيس زيمبابوي "إيمرسون منانغاغوا" على تويتر، منتقداً العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على بلاده، "أظهرت أحداث الأمس أن الولايات المتحدة ليس لها حق أخلاقي في معاقبة دولة أخرى تحت ستار دعم الديمقراطية".
وقال الرئيس الإيراني حسن روحاني إن الأحداث الدرامية التي وقعت في مبنى الكابيتول "أظهرت مدى ضعف الديمقراطية الغربية". وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية "هوا تشون ينغ"، مع تلميح لا يخلو من عجرفة، إن زملاءها "يأملون في أن ينعم الشعب الأمريكي بالسلام والاستقرار والأمن في أسرع وقت ممكن".
أما في الداخل الأمريكي فكانت ردة فعل المعلقين والسياسيين الأمريكيين معبرة في وصف اهتزاز صورة الولايات المتحدة في العالم، فغرد على تويتر "ريتشارد هاس"، رئيس مجلس العلاقات الخارجية قائلاً: "هناك الكثير الذي يجب عمله من أجل الانتقال السلمي للسلطة، والاستثناء الأمريكي، ولكوننا المدينة المشرقة على التل".
يعني أن ترامب ضرب سجل الديمقراطية الأمريكية وتاريخها العريق، وفوز بايدن يمكننا من القول بأن الديمقراطية انتصرت أو ستنتصر في النهاية هو صحيح جزئياً، لكن رونق هذه الإمبراطورية قد انطفأ وبهت، ومصداقيتها في مكافحة الأنظمة الاستبدادية قد ضعفت.
من استقراء الداخل الأمريكي نستنتج أن الولايات المتحدة لم تعد استثنائية في نموذجها الجذاب ولكن أصبحت استثنائية في حجم معاناتها في الداخل، والتمرد على الشرعية الديمقراطية الذي قاده الرئيس الخاسر في الانتخابات الأمريكية قد عمق من الشروخات الموجودة في المجتمع الأمريكي بدلاً من أن يحتويها، والكتلة الناخبة العمياء التي تواصل دعم ترامب ستتحول إلى قوة غاضبة مهمشة داخل هذا المجتمع، بعضها يميل ويبرر العنف مما قد يشكل خطورة على تماسك المجتمع الأمريكي قد يمتد لسنوات، وفى تصوري أن احتواء هذه الآثار سيكون أمراً صعباً أمام بايدن.
لكن الأهم أن خسارة ترامب في الانتخابات، أظهرت قدرة الديمقراطية على هزيمة الشعبوية، فكان انتصار منظومة الديمقراطية ودولة المؤسسات حاسماً في مواجهة الترامبية غير المسؤولة، واستعادة الأغلبية اللازمة لتكريس قيم الإنسانية، وهذا لقوة المؤسسة الراسخة، رغم أن هزيمة ترامب على أهميتها لن تكون كافية لدحر الشعبوية كنهج عالمي، ومع نهاية عهده يتعين على الفكر الشعبوي أن يراجع حساباته، فالديمقراطية لن تحتمل الشعبويين بعد الآن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.