أتصورنا واقفين في بقعةٍ من الدنيا، في أيدينا هواتفنا، وأمام عيوننا شاشات أجهزتنا، يسألنا أحد المارة: فيمَ قضيتم أعماركم؟ فلا نجد جواباً غير أصوات ضجيج بلا فائدة، قادمةً من الهواتف والأجهزة، تخبر السائل بجواب سؤاله، وتخبرنا كذلك بالحقيقة التي لا ننكرها ربما، وهي أن عمرنا مضى في "التريند"، ولا شيء آخر غير ذلك.
نجد أننا عالقون في فجوة سحيقة، وهوة قاتلة، كل ما فيها أحداث لا تخصنا بالمرة، أخبار من العالم الذي لا علاقة لنا به، صناع القرار يصنعون قراراتهم، ونحن متفرجون لا يسعنا التصفيق أو الصفير من بعيدٍ حتى، نحن لسنا فاعلاً في لعبتهم، لا مكان لنا في أرض الملعب لنركل الكرة في اتجاهٍ نريده، ولا مكان لنا في المدرجات حتى نشجع اللعبة الحلوة وننتقد الشوطة السيئة، لأننا في الأصل غير معنيين بذلك.
ما الذي ستحدثه "إيفّيهاتنا" الشقية للانتخابات الأمريكية، ما الذي سنضيفه بالمتابعة المحمومة، بالتأكيد ليس الحديث عن المتابعة بحد ذاتها، وإنما الانسياق خلف التريند، ما علاقتنا بمهرجان الجونة؟ لن ترتدي الفتيات فساتين فناناته، ولن يتقدم الشباب لخطبة واحدةٍ منهن، ولن يقلد واحدٌ منا أحد الذين حضروه من الممثلين، ولسنا مدعوّين له بأي صفة، لكننا أكثر الفاعلين في التريند الخاص به أكثر من المشاركين أنفسهم.
ما موقعنا من الإعراب في كل هذه التريندات؟ ما الذي نضيفه بوجودنا؟ وما الذي تضيفه هي إلينا؟ ولا يتوقف الأمر عند المشاركة في "تريند" بعينه، وإنما يخطفنا أحدهم ويسلمنا إلى الآخر، حتى إذا خلت أيادينا منه ساعةً تساءلنا: ما الجديد اليوم؟ لأن الجديد مرتبط لدينا بشيء افتراضي، بعالَم يخطفنا من الواقع الذي نسكنه بالفعل، بدنياً لا تسمن ولا تغني من جوعٍ، وإنما تجعلنا رغم شبعنا جوعى لمغرياتها، لدوائر الستوري، وشبابيك الهاشتاج.
قبل ذلك الوباء الذي مرضنا به دون شعورٍ بكونه مرضاً، وبالتالي دون استعدادٍ منا للشفاء، كان كل إنسانٍ يحتفظ بشيء من بشريته، يبحث عن طريقٍ يسلكه بعيداً عن طريق العالم نفسه. العالم يعاني من الكساد العظيم، وما علاقة ذلك بدراستي للطب؟ الدنيا تنقلب رأساً على عقب؟ ألف سلامة، لديّ مجالٌ أعمل به وأسعى فيه رغم عقباته، إيران وأمريكا سيبيعان الأرض مقابل اليورانيوم؟ ما شأني كترزيّ بذلك؟ إيلون ماسك يغرد عن شركات تكسب المليارات؟ هل أملك وسيلة لشراء الأسهم؟ هل أفهم فيها أصلاً؟ هل معي مبلغ أخاطر به؟ هل وهل؟ لا، إذَاً ما فائدة ذلك الانسياق خلف التريند؟ ما المبرر لذلك الجنون؟
كان من العظيم أن يكون المرء واقفاً على "ثغر"، تلك المصطلحات التي تلاشت مع ظهور مصطلحات أخرى ومفاهيم جديدة تقتلع الناس من أصلها، كان الوقوف على ثغر أمراً مسلماً له، معلوماً بالضرورة، وهو أن تعرف بوصلتك، أن تعلم أين تتجه، وما الذي تريد تحقيقه، بعيداً كذلك عن "تريند" فساد المنظومة التعليمية، لأنه ليس من الضروري مرور كل شيء من خلال المنظومة، هناك الكثير الذي يمكنك تحقيقه باجتهادك أنت وحدك.
بالتأكيد لا أهدف من المقال إلى أن تشعر به صفحةً في كتاب تنمية بشرية، لأنه سيقول لك كذلك ابتعد عن "تريند" التنمية البشرية، لأنه هو الآخر تريند قديم، اتجاه وهمي بلا مسارٍ واضح، حوادث نفسية كارثية تحدث فيه لأنه سرابٌ لا يضع اتجاهات للسير ولا دراسات للجدوى ولا يجعلك تفكر قبل أن تخطو.
كل هذه المهازل التي تراها، أنت جزءٌ فيها، ربما لا تستحق الأحداث هذا القدر من الضخامة، لكنك جزء أصيلٌ من فقّاعتها، بمشاركتك غير الفعالة- وجودك اللي ملهوش لازمة- في أيٍّ من تفاصيلها. تعالَ إلى الانتخابات الأمريكية، يا سيدي أنت لست مواطناً أمريكياً، ولا شيء يستيطع التنبؤ بسياسات الإدارة الجديدة، ولا صوتك يعني بالنسبة لهم شيئاً، ولا تحليلاتك ستكون في ملف البيت الأبيض، ولا عبقريتك الفذة في توقعاتك للمستقبل الأمريكي المنشود سيسمعها أحدٌ سوى مواطنين ليسوا أمريكيين أيضاً، مثلك تماماً، ولو كنتَ انصرفتَ إلى تعلم الإنجليزية في وقتٍ كهذا بدلاً من الانشغال بأمور متحدثيها الأصليين، لخرجتَ من المولد بشيء له قيمة، بدلاً من الخروج من المولد بلا حمّص.
سل نفسك دائماً في كل هرَج، كيف أجد لنفسي طريقاً خارج التريند؟ كيف أغرد بعيداً عن السرب؟ خصوصاً أن السرب لا يغني ولا يطير، وإنما مشتت وصوته نشاز، كيف أفعل شيئاً لا يتشابك مع المغريات اليومية التي تغذي شهوة الثرثرة؟ كيف أعمل في صمت دون التفات؟ كيف أقف على ثغرٍ لا يعنيه إن قعد العالم أو قام؟ ما الذي أحسن فعله، وكيف أصل إلى البراعة فيه؟ وكيف أصنع فارقاً لم يصنعه غيري؟ وكيف أخرج من الدنيا بحياة ليست فارغة حتى وإن لم تكن ممتلئة؟
لا نقول إن على الإنسان أن يلف السبع قارات على قدم واحدة، ولا أن يصعد إلى القمر، ولا أن يخترع شيئاً فائقاً، وإنما أن "يبتعد" عن التريند ولا شيء أكثر من ذلك، وذلك الابتعاد أو الهروب من التريند بحد ذاته سيكفل للإنسان وقتاً كافياً للتفكير في ماهية وجوده، وأهمية كيانه، وكيف لا يقضي عمراً فارغاً من الحقيقة وممتلئاً بالوهم، خاوياً من الفوائد وزاخراً بالهاشتاغات.
فكّر قبل أن تخوض النقاش، إلى أين سيصل؟ ما الذي سيحققه؟ هل يضيف شيئاً؟ هل يغير في الوجهة؟ لا شيء؟ إذاً اعتزل ذلك الجدال، وتذكَّر أن العالَم لا يقف على رأيك، ولن يتوقف عنده إذا أدليتَ به، ولستَ شيئاً ما لم تكن ممتلئاً وقادراً على الملء، لأن الفوارغ لا قيمة لها، ولأن الفقاعات تنفجر مهما طال عمرها، وأن عمرها مهما طال قصير.
من فضلك، جِد طريقاً بعيداً عن التريند، وغرِّد بعيداً عن الضجيج، فإن الدنيا لا ينقصها طبقةٌ جديدة في الأصوات النشاز، وإنما تحتاج في كل بقعةٍ إلى حادٍ حلو الصوت، يجعل الضجيج ينصت، والنشاز يسكت، والمارّة ينصرفون إلى أعمالهم، والحياة تستمر من بعد توقفها الطويل، في طريقٍ خاطئة من البداية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.